ادب وفن

الجواهــــري يغضب، فيتفجر، في الثمانين / كتابة وتوثيق: رواء الجصاني

كم هزَّ دَوحَكَ من "قزْمٍ" يُطاولُه فلم ينلْهُ ولم تقصر ، ولم يَطُل ِ
أحتفل الجواهري، الشيخ – الشاب، وعلى طريقته الخاصة، بعيد ميلاده الثمانين، وذلك عام 1982 وان اختلف مع بعض المؤرخين والنقاد الذين ثبتوا ولادته في عام 1898، بل وخاصم البعض منهم، واختصم معهم، لذلك السبب... وبتلك المناسبة راح الشاعر العظيم يبث شجوناً كانت، وبقيت، واستمرت، تؤرقه على مدى عقود، ومن أشدها ألماً، ما يزعمه ويراه، من جحود البلاد له، والتي اضطر للاغتراب عنها مرة أخرى واخيرة، مطلع عام 1980، بعد اشتداد ارهاب وعسف طال بعض أهل بيته حتى... وقد انطلق في قصيدته التي نتوقف عندها في هذا التوثيق، يعاتب، ويدين زعامات سياسية وثقافية وغيرها، في البلد المستباح، حاولت أن تتجاوز على عبقريته وأدواره الوطنية والثقافية:
حسبُ "الثمانين" من فخر ومن جَذَل ٍ
غشيانُها بجَنان ٍ يافع ٍ خضل ِ
طلقٌ كما انبلج الإصباح عن سَحَر ٍ
ند ٍ ، وزهرُ الربى عن عارض هَطِل...

... ولم يشتعل ضرام آهات ولواعج هذه اللامية المطولة من تراكمات وحسب، بل ان الجواهري، وهو في غربته الجديدة في براغ، والتي صارت مديدة فيها، وفي دمشق، حتى رحيله عام 1997، أُبلغ بصدور كتاب لئيم، ألفه "أكاديمي" "عراقي" اسمه عبد الله الجبوري، حاول فيه ان ينال من الشاعر العظيم، وبعض سيرته وحياته وابداعه. وقد تناولته بائية جواهرية ساخرة، هادرة، بعنوان "عبدة الغجرية" عام 1982، اثر نشر ذلك الكتاب المشبوه مضموناً وتمويلاً... وفي المقطع التالي اشارة، وان دون مباشرة، لذلك الحدث:
وأنت يا ابن "الثمانين" استرحتَ بها
كما تظنّنتَ، من لوم ٍ ومن عذَلِ
جاءت تحييك في أعيادها قِذَعٌ
نكراءُ ، لقَّنها الساداتُ للخَوَل
وفَّتْكَ نُذراً لها عما وَفيتَ به
من النذور ِ لَدُن أيامِكَ الأوَل...

... ثم تعود القصيدة في الأبيات اللاحقة لتردَّ على تلكم التجاوزات ولتواجه وتتصدى لاصحابها، وأسيادهم، الذين سعوا جاهدين للنيل من الرمز العراقي الكبير، بهذه "الحجة" تارة، وبغيرها، من مزاعم، تارة أخرى... وجميعها لم تستطع إلا أن تثير "زوابـــع في فنجــان" بحسب الجواهري في مجالس خاصة... ثم لتخمد وأصحابها، وليبقى الشعر، والابداع وصاحبه، خالدين:
يا "ابن الثمانين" كم عولجت عن غَصص
بالمُغريات فلم تَشْرَقْ ولم تَمِل ِ
كم هزَّ دَوحَكَ من "قزْمٍ" يُطاولُه
فلم ينلْهُ ولم تقصر ، ولم يَطُل ِ
وكم سعت "إمَّعاتٌ" أن يكون لها
ما ثار حولك من لغو ٍ ، ومن جدَل ِ
ثبِّتْ جَنانك للبلوى فقد نُصبَتْ
لك الكمائنُ من غدر ٍ ، ومن خَتَل ِ
ودَعْ ضميرَك يَحذَرْ من براءته
ففي البراءات ِ مَدعاةٌ إلى الزَّلَل ِ
لا تنسَ أنكَ من أشلاء مجتمع
يَدينُ بالحقد ِ والثارات والدَّجَل ِ
حرب ٍ على كل "موهوب ٍ" وموهِبة
لديه ، مُسرَجة الأضواء والشُّعَل ِ ...
عصَّرتهم فتحمَّلْ وضرة الثقل
ودُستهم فتوقعْ غضبةَ الخَوَلِ

وإذ ينتهي التمهيد والاستعداد، يحين الوقت كما رأى الشاعر، ليوضح المزيد من "التفاصيل" ذات الصلة ومنها هجوم "الأذناب" و"الأسياد" من جهة، وصمت "المحبين" و"القادرين" على الرد من جهة ثانية... ولعلّ مواقف الأخيرين كان أشد إيلاماً لأنهم تناسوا عهود الاخاء ومزاعم الود ومشاعر التقدير التي كانوا يبدونها للجواهري بمناسبة، وبغيرها، حباً واعجاباً حقيقياً أو زائفاً... ويقول بهذا الشأن:
نُبِّئتُ "شِرذمةَ الأذناب" تنهشني
بمشهد من "رُماة ِ الحي" من "ثَعَل"
يا للحفيظَة ِ لم تظفَرْ بذي شَمم ٍ
وللشهامة ملقاة ً على طلل

... ويتواصل القصيد جدلاً وحواراً وفلسفة ورؤى حول "الأصالة" و"الرجولة" و"المدعين" و"الهاربين" و"الناكثين" وغيرهم، ممن لم ينتصروا للحق – بحسب الشاعر– مع التنويه إلى تجاريب كثيرة كان لصولة الحرف فيها، الثبات والانتصار... وتستمر التساؤلات والادانة:
أيستثيرُ دمي "وغْدٌ" و"صاحبُه"
بما يثير رمال السَّهل ِ والجبل
ولا يندّ فمٌ ، لا بَعْدَه خَرَسٌ
ولا تُمدُّ يد ، لا تشْفَ من شلل ...
قد كان شوطُ رجولات ٍ مشرِّفة ٍ
لو كان تحت سِبالِ القَوم ِ مِنْ رَجُل..
الخانعين بمنجاة ٍ تسومُهمُ
جدعَ الأنوف ِ ، وذلَّ العاجز ِ الوكِل ...
والناكثين بعهد ِ الحَرْف ِ منتفضاً
على الضغائن والبهتان والدجل:
إن الحياة معاناة وتضحية
حب السلامة فيها أرذل السبل
وللبطولات جولات، وكم شهدت
سوح الوغى "لحماة الحرف" من بطل
وثمَّ من لعنة ِ الأجيال جازيةٌ
تقتصُّ من قولة ِ حَقٍّ، ولم تُقَل

... وقبيل ختام القصيدة التي بلغت أكثر من سبعين بيتاً يعود الشاعر الغاضب، موضحاً، ومدافعاً عن النفس أولاً، ثم ليفضح بكل صلابة وعنف مدعين مزعومين، و"زعاماتهم" التي لولاها لما استطاع أولئك ان "يستأسدوا" على الجواهري، مستغلين غربته بعيداً، أو مبتعداً عن الوطن المثكول:
أقول "للخِدن" ما حالت مَودَّتُه
فظنَّ أن عهود الناس لم تَحُل ِ
سلني أُجِبْكَ بما يعيا "الجواب" به
وإن ينل منك إشفاقٌ فلا تَسَل ِ
فقد تقرحتُ حتى العظم من شجن
دامي الشكاة ِ بلوح ِ الصدر معتمِل
أُجِبْكَ عن نُصُبٍ أعلام ِ "مقلمَة"
غُفْل ٍ ، شتات ٍ إذا كشَّفتَهم ، هُمُل ِ
و"للتماثيلُ" يستوحى بها "مُثُلٌ"
خيرٌ من البشر الخالين من "مُثُل ِ"
"خُرْس ٍ" وإن خَرقوا الأسماع في هَذَر
يُغْثي النفوسَ ، وفي مرصوفة "الجُمَل"
وعن "كروش" "زعامات ٍ" كأنَّ بها
من فرْط ِ ما اعتلفتْ مَسَّاً من الحَبَل
يستأسدون إذا مُدَّ العنانُ لهم
فإن يُشَدَّ، تردَّوا بِزَّة "الحَمَل" ...

... وكما هي الخلاصات التي يقدمها القادرون في نهاية عطاءاتهم، أو الرتوش التي يضعها الفنانون قبيل عرض ابداعاتهم، يختار الشاعر فضيلة التحذير نهاية لقصيدته، ومذكّراً من يريد أن يتذكر قدرات الجواهري في مواجهة اللؤماء ومن يقف وراءهم، وأولئك هم الأكثر قصداً من غيرهم على ما نظن:
يا "صاحبي" وحتوفُ "القوم" طَوْعُ يدي
وكم أتتهم "رياح الموت" من قِبَلي
أجِلْ يراعَك في آجالهم مِزقاً
فليس عندك بعد اليوم من أجل ِ
واضرب بهم أسوأ "الأمثال" سائرة ً
حتى تَثَلَّمَ فيهم مضربَ المَثَل !