ادب وفن

مظفر النواب.. مغيباً / محمود جدوع

إذا مت فادفنوني واقفا ووجهي إلى العراق

منذ فترة من الزمن نشرت إحدى المجلات الإماراتية المتخصصة بالشعر (بيت الشعر) خبرا عن الوضع الصحي للشاعر مظفر النواب (أبو عادل) وفيه تقول أن الشاعر يقضي وقته الآن بين مشفى الجامعة الأمريكية في بيروت وبيت أحد أصدقائه.. بعدما أعياه المرض، بل الأمراض التي تفتك بجسمه وهو ابن الثمانين.
آثر أبو عادل البقاء في عهدة أصدقائه في بيروت بالرغم من مساحة وطنه العظيم وعلى الرغم من ضيق يده ويدهم, ويعاني الشاعر الكبير الآن من مرض الباركنسون وضعفا في الكليتين، إضافة إلى الالتهابات والتورم ويعاني من صعوبة في الكلام مما جعله في حال من العزلة المرضية لا يستقبل سوى أصدقائه المقربين والذين يتولون خدمته وعلاجه.
كان بالإمكان المرور على هذا الخبر وتجاهله, إلا أن هذا الرمز المناضل الذي لم يتغير طوال سنوات وسنوات, مظفر النواب الذي استضافه التلفزيون السوري في يوم من ثمانينيات القرن الماضي وكنت في بداية حياتي في سوريا، وأذكر في ذلك اللقاء الجميل والعذب كيف غنى مظفر (شلون بيٌ وبيك يا بنادم لو إنت لو ما أريد يا بنادم ) وغيرها من القصائد المغناة فقد أتحفنا بصوته العذب، هذا الشاعر والإنسان المشبع بالروح النقية العارمة حد التصوف, ومن ناحية أخرى حبه للحياة الصاخبة حتى الثمالة, طبعا في تلك الأيام كان الاستماع لمظفر النواب يعني جملة اتهامات جاهزة لصاحبها من القوى المعادية, فمن يسمع مظفر لابد أن يكون يساريا أو شيوعيا مثقفا ..الخ
مظفر النواب من أكثر الشعراء اقترابا من الجوهر الإنساني, حمل أوراقه وشجونه وتنقل بين البلاد العربية بعد أن هرب من سجنه بالعراق.. هرب من العراق لكن العراق بقي معه يكتبه حنينا وشوقا كما يشتهيه، يريده عراقا حراً سعيدا عراقا لكل أبنائه.
مظفر النواب، تمر الآن أمامي كل أشعارك السياسية، أسمعك تصرخ بأعلى صوتك (القدس عروس عروبتكم فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى غرفتها ووقفتم تسترقون السمع لصرخات فض بكارتها وتنافختم طربا) مازال صوتك الجوهري يرن بأذني, يبكيني إذا شئت .. أسمعه كأنه ولد للتو من رحم المآسي الإنسانية والتي بدأت منذ أمد بعيد تلك المآسي المتوالدة من رحم الإلغاء والإقصاء والتهميش والتفقير الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للاخرين .
هل أخبرك شيئا أيها الجالس هناك في بيروت الآن, سأظل أسمع شعرك حتى آخر العمر في الكاسيت الذي رافقنا طوال أيامنا.. وفيه كنت تعلن أن دمشق (شقيقة بغداد اللدودة ومصيدة بيروت, وجسد القاهرة.. حلم عمان.. ضمير مكة.. غيرة قرطبة.. مقلة القدس.. مغناج المدن وعكاز تاريخ لخليفة هرم, كما قلت وأضفت, إنها دمشق امرأة بسبعة مستحيلات وخمسة أسماء وعشرة ألقاب مثوى ألف ولي ومدرسة عشرين نبيا وفكرة خمسة عشر إلها خرافيا لحضارات شنقت نفسها على أبوابها.
لقد غرق أبو عادل النواب في الهم العراقي والعربي وكان ينبش هذه الهموم بالجملة والمفرد ويحولها إلى شعر سياسي فيه من التحريض ما يكفي لهدم أنظمة كوكب الأرض السياسية.. رتب لنا مفرداته المنسوجة من عباءة الألم اليومي الذي عاشه وعشناه وهو الذي ناصر الناس والمظلومين وحين أُنتقدَ بسبب بذاءة بعض الكلمات في شعره رد (إغفروا لي حزني وخمري وغضبي.. وكلماتي القاسية.. بعضكم سيقول..بذيئة.. لا باس اروني موقفا أكثر بذاءة مما نحن فيه)؟.
وحين كان يستبد به الشوق والحنين كان يهرب إلى المرأة ملاذه الشعري والوجداني فالمرأة التي خصص لها أروع وأجمل غزلياته عندما يقول في إحدى قصائده:
من تشتريني بقليل من زوايا عينيها؟، تعرف تنويمي.. وشداتي.. وضمي.. وجموحي وحين يمسكه الحزن العراقي وكان هذا الحزن لديه مقيماً دائماً كان يصيح (مو حزن..لكن حزين)
مثل ما تنقطع تحت المطر شتلة ياسمين..
مو حزن لكن حزين مثل صندوق العرس ينباع خردة عشك من تمضي السنين)
كما كانت لغته في غزلياته.. مزيجاً من اللهفة والشوق, كمية أوكسجين, حنين لا نهائي للحياة , وبكاء على زمن نفقده..
في لحظات الهروب من القهر الدائم والحمد لله فقد كنت اسمعه في غرفتي الحزينة التي عرفت خيباتي وآحزاني لانام وأستيقظ على أحلام مؤجلة وكنت أتعرف على النواب والذي ينادي صديقه ذات نهار (اسرع لنصل السلمية, لعل أنيساً أو جهل الشوق - فعبد الناصر في النقب ما زال يقاتل.. يقاتل بالدم والعصب)
كان معنا يحمي الناس من اليأس ويعلم كيف يكون الحزن نبيلا يعطينا الكثير من خلال شعره وكان صوته كان يلاحقني من خلال إلقائه قصائده وترك هذا الصوت الجهوري بصمته على آلاف الشباب وفي مساحة شعره تلك كان يشغلنا برؤيته السياسية والفكرية المقتنع بها وكان دائماً في أشعاره معنا نحن الذين ولدنا في خيمة العمر لا نحمل معنا سوى زوادات الهم والرحيل (أبو عادل) هو الزمن العقيم نصارعه. إذا ايها المفتون بالقدس ودمشق وبغداد ..أتذكرك حين تنشد:
(لا تلزمني أنظمة السير.. ولا الشارات
إني ذاهب للجرح .. للطلقة ..للعمق الفلسطيني
لا تلتزم الطلقة
لا يلتزم الإسعاف إلا بالمهمات وخط السير
قد يرتبك العداد
قد تشتبك الحارات والأحداث والخندق
استهدي بطعم الألم الثوري
استهدي بنجم غامض لا يتلف البعد ولا تتلفه الأبعاد ..)
مظفر النواب لا أستطيع أن أقدم لك شيئاً سوى المحبة والابتهال بسلامتك والدفاتر القديمة لتقرأها لترى فيها فرحي وحزني وما تبقى من قصائدك على تلك الاوراق وقد حفظ الناس قصائدك التي غناها المغنون وترنم بها العشاق والمحبون والسياسيون وخاصة قصيدة مضايف هيل والبراءة وعشاير سعود وأيام المزبن وسفن غيلان أزيرج وزرا زير البراري وتغلفها أجمل القصائد وهي الريل وحمد هذه القصيدة التي غناها الناس ووضعوا لها ألحانا من عندهم قبل أن يلحنها الملحنون ويغنيها المطربون فلم يأخذها المطربون من مظفر بل أخذوها من أفواه الناس وترنيماتهم.
عندما زاره الزميلان كامل فاضل ( أبو أنصار ) والدكتور مجيد مسعود وقال لهما:
" إذا مت فادفنوني واقفا ووجهي إلى العراق".
أبو عادل في الختام إنك ترنيمة العراق, سلامتك أيها المغيب الحاضر في قلوب المحبين.