ادب وفن

عوالم المقاربة الانسانية لدى الكاتبة أطياف سنيدح / وجدان عبدالعزيز

أثبتت القصة القصيرة مكانة مهمة في عالم السرديات، كونها ذات لغة مكثفة وتمتاز بالكثير من الحذف، وترتكز على الإشارة، وبالتالي فهي أصبحت وعاء لاستيعاب رؤى مبدعيها بأقل ما يمكن من اللغة، واعتمدت في بنائها على الصراع الذي يولد التوتر والشد، فالقصة بنية سردية تحتوي على فكرة وتعتمد التكثيف.
يقول الكاتب يوسف إدريس: " القصة القصيرة رصاصة، تصيب الهدف أسرع من أي رواية". ويعرفها آرسكين كالدويل بأنها: "حكاية خيالية لها معنى، ممتعة بحيث تجذب انتباه القارئ، وعميقة بحيث تعبر عن الطبيعة البشرية". والقصة بكل تأكيد تحمل رؤية، هي جوهر العمل الفني، ونواته الفكرية التي قد تصدر عن الفنان دون وعي منه لفرط خبرته، ثم أنها تعبر عن مفهومه ونظرته للحياة، فالمبدع الحقيقي هو الذي تكون له نظرة ما، حول ما يقدمه من أعمال فنية، وتعتمد القصة على اللغة، فهي المعبر والمصور لرؤية المبدع وموضوعه، وأساس العمل الأدبي، وتعتمد على بناء أساسه اللغوي، حيث التصوير والحدث يتكئان على اللغة، والدراما تولدها اللغة الموحية المرهفة، كل هذا يشير بدلالة واضحة الى أهمية اللغة وإنه لولاها لكان العمل الأدبي سيئاً وغير مفهوم. ثم ان القصة عالم يمتزج فيه الخيال بالواقع، لتكوين مقاربة جمالية سمتها البحث عن حقيقة الحياة وتفاعلات الوجود، ويتبدى لنا من خلالها عنصرا العملية الإبداعية، وهما المبدع والمتلقي اللذان يتواصلان في ترسيخ الرسالة بين المبدع والمتلقي، أي المرسل والمستقبل، وهذا الأمر يشير إلى: أن المتلقي لا يكتفي بتركيزه على المحتوى، إنما يأخذ بنظر الاعتبار الشكل وتقنياته في عملية الاسترجاع ، كعملية سردية تأتي بإيراد حدث سابق على النقطة التي بلغها السرد، ثم الاستباق الذي يتمثل في إيراد حدث آت أو الإشارة إليه مسبقا.
"كلهن أنا"، وقلق الكتابة
ونحن اذ ندخل معترك القراءة لمجموعة "كلهن أنا" للكاتبة أطياف سنيدح، نجد حالات قلقها بين لغة البوح الكاشفة، والأخرى التي تعاني القمع الاجتماعي، فتخفي بوحها. ورغم هذا فإنها تحاول إقناعنا بإصابتها بالغيرة من بطلات قصصها اللائي تحررن وأثبتن مواقفهن الشجاعة في قمع جبروت كل رجل كما تدعي، وقد نجد هجوما حادا على الرجل، لكنه يمثل ضعفا ضمنيا، تحاول الكاتبة معالجته وهو يكمن داخل المرأة.. لكن رغم هذا احتفظت بقيم اجتماعية وأسست إلى ثباتها وعاشت الحلم، ومن خلاله صنعت عالما خاصا بها، وهي تعترف بالحب ، لكن تكره ضعف الجسد، تعلي من شأن الحب بشرط استثماره لعلاقة متكافئة ، ولا أظن إنها نجحت من ناحية الحياة العملية ، إنما بقيت رهن إشارات الحلم لمرونته في ذهنها، لهذا تقول في مقدمة مجموعتها:" إني لم اخسر مجدي، كامرأة تعشق الحلم فهو منفذي كي لا أصبح ضحية لأي رجل عرفته أو سوف أتعرف عليه مستقبلا.. ما زلت ابحث عن فارس أحلامي رغم شهرتي وهذا لا أحد يعرفه ـ فقط المسكين قلبي على علم بهذا .. التجربة في الحب ليس النهاية، وكوني كاتبة عذراء لا ألوم من قدمت نفسها للحب، لان الخطأ العظيم يأتي من الكبار". لذا فـ "إن القراءة المنهجية هي التي تصغي الى ما يقوله النص في كليته دون اقحامات فيه أو إسقاطات عليه أو انتزاع منه. والإصغاء هنا إتقان بفك الرموز الجمالية / أو الدلالية للنص وإعادة تركيبها للقبض على الخفي والكامن الذي لا يكف عن الإيماء اليه دون التصريح به"..
قراءة في بعض قصص المجموعة
كانت قصة (السباق) ، قد أعطت لائحة عمل لكل الشخصيات التي ترادفت عبر قصص المجموعة، ظلت تعيش أجواء إسقاطات ذات الكاتبة، وخاصة ان أجواء بطلات القصص لا تبتعد كثيرا عن أجواء الكاتبة نفسها، فقصة (السباق) لخصت رؤية وموقفاً من الحياة بإثبات النجاح النسبي، (امسكها، ثم هزها بطريقة ذعرت منها وقال: لا تضعي الفشل أمامك. وان فشلتي لا تتوقفي. بكت من جديد وهي تختنق من نبرتها المنحصرة بين أنفاسها الثقيلة. وهنا صرخت مع دمعتها الساقطة: أبي أنا، أنا، ضمها وهو يمسح برأسها قائلا: لا تقولي أنا، بل قولي من أنا كفى لا تبكي، الفوز بالنسبة لك ليس في هذا السباق فقط، بل في كل سباق تجدينه أجدر باجتيازه) ، وهنا عاشت البطلة (الراوية الكاتبة نفسها) قلق السباق وقلق الفوز، وكانت مبدئيتها تقوم على سؤال (من أنا) عكس كلمة (أنا) ، وهو صراع لإثبات الذات، كونها ذات ذاتها وكونها ذات موضوعية.
ثم تأتي قصة (نجوم لاتلمع) ، حاملة هما إنسانيا، تفاعل باتساق مع رؤية الكاتبة وموقفها في الحياة الذي اكتسب ميزة التحدي واقتحام قلقلة التردد، الذي عكس الصراع النفسي الداخلي، كما يتبدى لنا ذلك.. (كنت تطمحين برسالة تكشف مشاعري لك، وللأسف إنني أخيب ظنك، فهذه رسالة أقول فيها، بأن غدا الخميس هو يوم زفافي على ابنة عمي، أنت من النسوة اللاتي يفضلن "العنوسة" على ان تكون زوجة ثانية، ولكن أنا رجل لي مسؤولية ان احتفظ بك بطريقتي، واحتفظ بغيرك تحت هذه المسؤولية، لك الحرية، لا التلاعب، هنا وهناك مع الغير وأمامك ثلاثة أيام حتى اعود لهذا المكان، وان لم أجدك، أدرك أنني وضعت في حاوية أوساخك) ، ورغم ان الفكرة مكرورة ألا أن الكاتبة خلقت منها صراعا ممتدا، كما هو مع الصراعات الأخرى، التي امتدت عبر كامل المجموعة (كلهن أنا) ، واختصرت هذا بالعبارة: (ارتجفت وهي تقرأ الرسالة، وبصمت يشبه الخرس، بدأ صداه يدوي مع نبضات تزف للعودة، لسرير يحتضر فيه المساء دون نجوم) ، واستمر الصراع في قصة (كابوس) بخيط رابط ، هو الحب .. تلك العاطفة التي تسكن الأعماق وتحركها باتجاه التمسك والتمعن والتأمل وبالحوار التالي:
(ـ ولكنك لا تعرف بأنني حبيبة
ـ محبوك كثرة هم ، اعرف
ـ ولكنني حبيبة واحدة
ـ نستطيع معالجة الأمر
ـ كيف بالخيانة ؟).
ويتعالى صراع الحب بين متطلبات الجسد، وما تحويه المشاعر الصادقة التي تريد الاندماج بحالة الانفعال العقلي، أي عقلنة الحب وخروجه من دائرة الجسد وقيوده، برفع كارت الصدق إلى محاولة ترويض العاطفة ، واحترام جدية الحياة.
وجاءت قصة (درس حياتي) بحوار شفاف منساب، رسمت به خلجات ظاهرة اجتماعية أخذت أبعادا في قضاء حاجات الجسد الجنسية بشرعنة خارج اعتبارات العلاقات الزوجية الدائمة.. ما يسمى بزواج "المتعة" ورسمت الكاتبة أبعاد هذه العلاقة.
أما قصة (كرة خاسرة) ، فتحدثت عن تجربة الحــــــب قبل الزواج، وسلطة الرجل، وهنـا لم تعطي الكاتبة تبريرا مقنعا للخيانة، وتركت تساؤلاتها، هل المسارات الاجتماعية المتواضع عليها مرفوضة في هذه القصة ام هناك أسباب نفسية وراء الحدث ؟؟ ويبقى الباب مفتوحا للقارئ في مسألة التأويل .. يقول جاك دريدا عن النص: (لم يعد منذ الآن جسما كتابيا مكتملا أو مضمونا يحده كتاب او هوامشه، بل شبكة مختلفة، نسيج من الآثار التي تشير بصورة لا نهائية إلى أشياء ما، غير نفسها إلى أثار اختلافات أخرى)، بمعنى ان النص يبقى مفتوحا لاحتمالات تظهرها القراءات المتعددة له، ثم ان هناك مبدعا له الكثير من المزايا، ويعيش ضمن منظومة اجتماعية لها سبق التأثير عليه، وهناك متلق يحمل خلجاته ، وقد يصطدم بالنص ويشتبك معه في فك رموز معينة.. ويحدث هذا من خلال اللغة بلا أدنى شك، يقول فوكو: (ان الحقيقة لا وجود لها وان اللغة فقط هي الموجودة) ، وتشتبك الكاتبة هنا في صراعها الأزلي ، وهي مسكونة بالحب، وأي حب؟، إنها تريده حبا من طراز خاص، ففي ثنايا قصة (انتظار) ، جاء مايلي : (أيكون هو السلاح الذي يقتلها فيه، كامرأة متزوجة؟. قالت له: لماذا لا تحبني بذلك الإحساس الأنيق، وتترك كأس الجنس يتجرعه غيرنا، تعرف لماذا أريد هذا، لأننا غير نبلاء في الحب ، وهذا عائد الى بقع ملوثة بدأت تلطخ جدران سقفنا. راقبها ثم صفها، وبدأ ينظر إليها بقسوة، قال بعد حين وهو يراها تجلس أمامه، مستنكرة بنظرة متغطرسة.
ـ تعرفين لماذا تزوجت بك، حتى أحطم غرورك ، وأدمر امرأة يشتهيها الآخرون، ولا تشتهي سوى نفسها، أكرهك، ولم احبك وبصراحة إلى هنا ينتهي دوري، لأنني ملأت نفسي منك بعقد الزواج.. أنت طالق، طالق، طالق). هنا أجد تعدد جهات الصراع، ف (منذ بدء الخليقة لازمت القصة الإنسان وعاشت معه ورافقته في جميع أطوار حياته وهي أقدم ما عرف من تصورات عقله وخواطره وأحلامه وهواجسه ورؤاه، فحياة الإنسان سلسلة متصلة من القصص، وقد عاش كل فرد من أفراد الإنسانية مع أساطيره وحكاياته وخرافاته وأفكاره ووجدها على شكل قصص شفاهي او مكتوب واتخذت منبرا للتعبير عن الاتجاهات الاجتماعية)، فهذا الثراء الذي حملته القصة استطاعت الكاتبة أطياف سنيدح استثماره والاقتراب من نبض الحياة وتمثلها على أنها لا تحتمل غير عاطفة الحب ، كإطار جمالي للحياة ، وبدونه تزحف الرتابة الى ثناياها وتصبح سلوكياتنا، نحن البشر العاملة فقط لإسقاط واجب، نأكل لكي لا نجوع، نمارس حبنا لإرضاء الجسد، ووو.. تزحف الرتابة لتشكل إطارا عاما للحياة.يتصاعد الصراع في قصة (حقل رجل) ، ليقرر الحقيقة أعلاه.. وتبقى مسارات قصص المجموعة تؤسس لعلاقات عاطفية مبنية على ركيزة الحب الصادق، وتسعى الشخصيات لتكون غاية العلاقات الاجتماعية هو الحب ولا سواه ..