ادب وفن

قراءة للمجموعة الشعرية "بصمة السماء" / عباس باني المالكي

حين يحدث الانزياح وفق توسع ذائقة الرؤيا تأخذ اللغة هندسة البناء الأفقي وتكون الصورة الشعرية حاضنة لأكثر من زاوية للرؤيا, وهنا يأتي دور الشاعر الذي يطوع الزمن والمكان كعلامات الحضور الإنساني قي تقارب الأبعاد الفكرية وهذا يحدث من خلال دمج الاثنين كي يبقى محافظا على عنصر الحياة والفكر والتعبير عنهما بالذوق الفني الرؤيوي ولكي يستمر بإيجاد منابع تعطي الاتساع الكامل للرؤيا والشكل المعبر عنها، بحيث يتكامل فيها الوضوح في الأداء الشعري، ومن أجل إيصال الدلالات الموحية للمعنى المرتبط بسيميائية الفكرة المعبرة عنها، التي تعطي إلى النص الوحدة العضوية في تكوين الصورة الشعرية وتأخذ من البناء العمودي، وتوسع من البناء الأفقي في تحديد المتغيرات وجعل الانزياح هو الذي يقود الذائقة الشعرية لدى الشاعر، أي أنه يحاول أن يكتب ذاته من خلال التطلع إلى الخارج وفق تغير أفق الحركة الإنسانية وتبعيتها إلى الزمكانية.
وهنا طبعا تأتي اللغة الموصلة إلى المعنى من داخل هذه الذات، أي أن الشاعر بهذه الحالة يحاول أن يردم الفجوات في زمن الكتابة التي تتجاذب في لحظة التوهج الشعري بحيث تجعل القصيدة خارج المعنى الذي يريد أن يوصله الشاعر.والشاعر غسان حسن محمد في مجموعته الشعرية الأولى الموسومة "بصمة السماء" التي صدرت مؤخرا ضمن إصدارات اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين فرع ميسان، اعتمد على احداث التغيير في بؤرة النص وهي اليد والتنقل بها حسب اكتساب المعنى المتغير في التعبير عن رموز هذه، التي كما سبقت تعطي البناء الأفقي المعتمد على عمق المشاعر الموحية لهذا التعبير المتغير بحيث تكون هذه اليد ممثلة إلى مركز الأحداث والفعل في داخل النص وضمن اشارات للحركة والمعنى المعبر عنه خارج الذات، كما في ص6 (تمتد يدك بالحياة ../ تقبض على الريح / لئلا / تشقى الوردة )
هنا اليد هي صانعة الحياة وفعلها, فهي تبعد الأذى عن من تنتمي إليهم من خلال القبض على الريح لكي لا تمر إلى لحظة الأمان التي يعيشها من هم حولها.
الشاعر هنا أستطاع أن يعطي إلى رمز اليد كامل الحياة وكيفية المحافظة عليها..
في ص 7 ( لا يؤمن باليد / طالت أو قصرت .. / والأخر / يحصد من النزاعات / ما يفوق معارك المصير )
اليد هنا هي دلالة معنوية لمركزيتها في عنصر الحياة حيث اليد تتساوى بالمعنى والفعل التي تحركه، سواء كانت قصيرة أم طويلة بل يعتمد الفعل هنا على قيمتها التي تحقق الايمان بقدرة هذه اليد على فعل كل ما هو حقيقي وإنساني في الدفاع على ما تؤمن به هذه اليد، أي أن الفعل هنا يعتمد على الإيمان بقدرة هذه اليد وليس حجم المكان التي تستطيع أن تصل إليه.وفي نفس الصفحة ( على يدين لا تصلان ../ العائلة )، هنا تنكشف الحقيقة الجوهرية لكل أفعال هذه اليد وتنكشف كل محاولاتها التي تبني عليه ايمانها في الحياة والظرفية المعاشة في الدلالة عنها وهي العائلة, والشاعر أعطى المكاشفة بعد أن ثبت المعنى الموحي إلى قيمة هذه اليد, أي أنه لم ينسق إلى الفعل المباشر في تثبيت الدلالة إلا بعد أن أحدث أوصافاً موحية لقيمة هذه اليد بحيث أعطى الفعل التي تحاول أن تقوم به من أجل الدفاع عن أيمانها الموجب في الحياة وجاءت الاستعارة هنا بانسيابية مقنعة للمتلقي وأعطت إلى البناء الأفقي عمق الحركة في الصورة الشعرية وفق الانزياح المترتب على فعل اليد وثيمتها الموحية.
ص 10 ( اليد التي في المقابر.. / فالخسائر / أكبر/ أكبر/ من التدوين على لائحة الانكسارات..)
بقدر ما أعطى الشاعر في المقاطع الأولى قدرة اليد على فعل الحياة والدفاع عنها فقد انجذب لديه المعنى إلى الفعل المعاكس في أحداث الفعل لليد. فهنا الموت والمقابر, أي أن اليد تملك كل القدرات التي تمكنها من التحرك بمختلف الأماكن والأزمان وتعطي المعنى المترتب على حركتها, فبقدر ما كنت تعطي الحياة وتحافظ عليها, هنا تنتقل إلى مشاهدة الموت وعمق الخسارات التي تحدث لوجود هذه اليد في المقابر, والشاعر وضع المتلقي أمام قدرة اليد على صنع الحياة بقدر قدرتها على كسب الخسارات والموت عند المقابر والتي تمثل الدائرة المغلقة التي أزاح عنها الحياة , والشاعر استطاع أن يعطينا المعنى اليد الحياة والمناقض لها وهي يد الموت, وقد ارتقى هنا بقيمتها وأهميتها في تكوين عناصر الحياة والخسارا ت التي تؤدي إلى الموت بانغلاق هذه الحياة والنتيجة الحتمية بنهايتها إلى الموت.
ص 16 (فأسقطت في اليد / ثمالة قمر ../ مغمور بالذات وبالأخر )
حين حصر أفعال اليد بين الحياة والموت والمساحات الممتدة بينهما فانه أعطى إلى ثيمة اليد الدلالات المتعددة حيث أستطاع أن يحدد من خلال الحركة في بؤرة النص جعل التوافق الدلالي هو الذي يعطي السمات الشكلية الجوهرية داخل النص كي تبقى الجمل الشعرية هي المعبر عن التوافق اللغوي والدلالي الموحي إلى المعنى المتحقق من خلال الصورة الشعرية.ان الذي يميز نصوص الشاعر غسان حسن هو أحداث الفعل الخارجي من خلال الرمز الداخلي أي أنه لا يعطي إلى المظاهر الخارجية أي معنى دون التصاق حركتها بتغير جوهر المعنى الداخلي والذي هو المحرك لكل إشكاليات الحياة، ونجد كذلك صوته الشعري يمتد بامتداد العلاقة المؤثرة بين الشاعر والمحيط حوله, أي يعتبر ظواهر الأشياء وحركتها من دون ارتباطها بفعلها الجوهري ظواهر لا حقيقة لها، أي أنها لا تمتلك التأثير الحقيقي في الحياة لأنها دون قيمة معنوية لكل أفعالها, لهذا نجده يبني معنى الاستعارة التي يستخدمها لتوليد الرموز من الأحداث التي تمر عليه, ففي أغلب قصائده نجد الإيحاءات الرمزية مرتبطة بجوهر الأشياء وانعكاسها على أفعالها الخارجية، فالرمز لديه يمتد من الرؤيا المتحققة في الذات إلى العالم الذي حوله ضمن السياق الدلالي والمعنى المترتب عليه.
هنا تمثل اليد الفعل المضيء بين الذات والآخر من خلال هذه اليد التي تعطي الكثير دون أن تأخذ، فثمالة القمر ما هو إلا الضوء في ذات اتجاه الآخر وحجم العطاء إلى هذا الآخر لأن الذات هنا لا تحقق وجودها إلا من خلال الغمر بالآخر، أي التمازج معه وتشكيل العلاقات الإنسانية الحقيقية والغمر هنا سمة التوحد مع الآخر.
ص21 ( يد تخون ../ وأخرى مع الريح ../ ولسان يتآمر ../هكذا بلا ضفاف/ تدعو العائلة / لاصطحاب القارب/ إلى النجاة لا تصل).هنا عبر عن اليد بدلالة الخيانة وما تمثل هذه الخيانة من تشتت لكل القيم وارتباطها بنوازع الإنسان والتي هي بدورها تؤدي إلى عدم الاستقرار في كل أفعالها اتجاه الحقائق الإنسانية وهي العائلة.
أن فعل الخيانة هو الضياع والفوضى المترتبة عليها.
وقد استخدم إشارة أخرى وهو اللسان ليعطي إلى فعل التأمر امتداداً معنوياً كبيراً لأن التأمر يأتي بعد اشارة النطق أو الدلالات اللفظية أي قبل الحركة التي تقود اليد لهذه الأفعال والتأويل لها.
ص 36 (رفع يديه إلى السماء / ماتت سماؤه بنزف / اللوعات الوراثي ../ وقف أمام العشاق , أسفر قلوبا تتشظى ..)
ويستمر بإعطاء اليد كل حالات التأويل الموصل إلى حركة اليد والمعنى المترتب عليها بحركتها, أي أن اليد تصبح الدلالة المعنوية تجاه مستوى النفس ومستوى ما مؤثر في هذه النفس من أحداث العالم حولها وكأنها الاستجابة النفسية لمستوى الإثارة بين أشياء العالم والذات الإنسانية من فعل واستجابة وتنافر وتعاطف, وهنا ترفع اليد إلى السماء من أجل الرجاء لكي تجد ما حل بها، أي أنه فقد الأمل في الحياة ولم تبق له غير السماء.
ص 48 ( وعلى يديه سلام ., / يكفي أن له: من الغنائم أصابع تسيل., كلما ذوى زمن../ إلى أقصى الجنون).وهنا يحدث الفعل داخل اليد إلى حد أصبح الحدث داخلها لأن هذه اليد أخذت تذوي مع الزمن، لم يبق فيها غير أصابع تسيل، أي أصابع شاخ الزمن فيها ولم تعد تقوى حتى على الوصول الى الغنائم، أي فقدت القدرة على الفعل والاستجابة له.
ص 65 ( لليد سطوة الخواتيم ../ هكذا تنشد قطافها / على قطار انقطع سبيله / ومحطات /لم ولن / تكتمل )
لكن الشاعر يرجع ويعيد الحياة إلى هذه اليد فهي لها سطوة الخواتم أي سطوة تحريك الأحداث حولها فهي تنشد قطافها ولكن هنا يتداخل اليأس إلى داخل النفس المحركة لها فهي تملك القدرة لكنها لا تستطيع أن تعبر عن الانفعال والاستجابة لهذا الانفعال مع ما يثير الذات, وهنا نشعر أن الشاعر أعطى قيمتين للفعل وعدم القدرة على تنفيذه, فهي تمتلك القدرة على عمل هذا الفعل ولكنها لا تستطيع أن تفعله لعجزها عن تنفيذه فهذه اليد أصبحت فاقدة للقدرة مع أن النفس المعبرة عنها تشعر أنها تتخيل قدرتها على الفعل، أي يتحول الفعل هنا إلى تمن فقط دون حركة بسبب العجز الذي أصاب هذه اليد, وهنا أثبت الشاعر بالدلالات الموحية العميقة التي تقارب الإيحاء بالفعل وعدم القدرة على تنفيذه.. وقد ربط هذا التوتر النفسي والمعبر عن العجز بسبب العاهة.
ص 73 ( أنها اليد / التي أكلت .. وأكلت ..
وأحرقت الفائض من الفتات . , ) ( أن اليد أشد منها بطشا .. / زمن مهما طال عمره/ فهو الغرير تجاه اليباب )
ويستمر الشاعر بأحداث الانزياح وفق ذائقة تغير مهمة اليد وقدرتها على فعل الحركة, فالذي يميز نصوص الشاعر غسان حسن هو ذائقته التأويلية في تفسير دواخل الإنسان من خلال الترميز إلى ظواهره المتحركة وارتباطها بالفعل النفسي المؤثرة والمتأثر، وكانت هنا هي اليد التي تعبر عن كل الانفعالات المؤثرة والاستجابات لها انعكاسا للظروف المؤثر حولها, وبهذا نلاحظ أنه يشير إلى الدلالات ويتحكم بها لكي لا تخرج عن معانيها وسياقها ضمن النص.