ادب وفن

تغريب الإنسان في الأدب السومري / صباح جاسم جبر

الأدب بوجه عام نتاج المعقل البشري وانعكاس للحياة الاجتماعية والسياسية والوجدانية، وهذا الانعكاس ليس انعكاسا آليا وإنما يتم بوعي اللحظة الإبداعية الخالصة، وان الآداب الحديثة يكون الإنسان فيها محورا وفاعلا حقيقيا للأحداث في لحظة المكان والزمان، إلا أن الآداب القديمة كالملاحم والأساطير والحكاية الخرافية قد أخذت منحى آخر سواء من ناحية الشكل أو المضمون، فنلاحظ الأدب السومري باعتباره الصورة الأولى للعملية الإبداعية في التاريخ البشري قد عكس الإنسان السلبي حيث تم تجريده وأبعاده بصورة كلية عن مسرح الأحداث، وقد أظهر الأدب السومري الصراع في الحياة ليس صراعا بشريا حقيقيا في العمل والإنتاج والإبداع وممارسة الفعل في الحب والجنس وما إلى ذلك، بل هو صراع بين الآلهة الافتراضية التي رسمها الخيال السومري، بمعنى أن الأدب السومري قد ابعد عن المشاركة المجتمعية الحقيقية للإنسان رغم تغريبه عن الحياة بالكامل ونسب الأدوار الواقعية للحياة للآلهة الافتراضية، فنلاحظ الآلهة هي التي تتحرك وهي التي تنتج وتعمل وتمارس الحب والجنس والإنجاب والخلق.
ان التاريخ الأسطوري ينساب فيه الزمان والمكان بحرية كاملة مطلقة، وتتحرك الآلهة بقدرة كلية وقوة شاملة باعتبارها الصانعة للخلق الإنساني والكون الطبيعي وإنها خلقت الإنسان من مادة الطين ليكون عبدا للآلهة، حين أمرت الآلهة «ننمو» ابنها الآلهة «انكي» أن يقوم بصناعة الانسان البعد، تقول الاسطورة.. حيث الآلهة «ننمو» تخاطب ولدها الآله «انكي» يا بني قم من فراشك.. اصنع عبيدا للآلهة فيجيب الاله «انكي» يا أماه ان المخلوق الذي نطقت باسمه موجود أعجبني لب الطين الموجود فوق مياه العمق عليك أنت أن توجدي له الأعضاء والجوارح.
منذ البدء الأول للخليقة والى المحطات اللانهائية في عملية التطور التاريخي «عملية التقاط القوت، الصيد، الرعي، الفلاحة، صناعة أدوات الاحتياج إلى عملية التطور والرقي في التمدن البشري» شرع الإنسان الأول في الصراع من اجل البقاء ضد قوى الطبيعة الصماء والحيوانات المفترسة، قوى شكلت له مصدر خوف وفزع ورعب وقلق وجودي لا يعرف ماهيته، طفولة بشرية وسط زحمة العناصر المرعبة وطلاسمه لا يمكن فك رموزها، في لجة الصراع مع المجهول العاتي «امطار،عواصف، برق، رعد، فيضانات، حيوانات مرعبة» في خضم تلك الأهوال، اهتدى الإنسان الأول إلى الكهوف لتكون مأوى وملجأ له وبدأ برسم الحيوانات الضخمة على جدران الكهوف معتقدا بان ذلك سوف يبعد عنه خطر الحيوانات الحقيقية، وعند نجاح بعضها تحرك الرسم إلى شيء مقدس وكان ذلك المقدس الأول في التاريخ البشري. وبعد رحلة طويلة في وعي البشر ونتيجة التطورات التاريخية، بدأ الإنسان يتلمس ويتحسس بعض الظواهر الكونية، ويراقب الأشياء المحيطة به، ولعجزه عن إيجاد العلل والتفسيرات المنطقية تم حسم الأمر بأن وضع لكل ظاهرة كونية إلها.
فأصبح للمطر إله وللزوابع والعواصف إله وللقمر والشمس إله، وللحرب والسلام وحتى المشاعر والعواطف كان لها آلهة، كآلهة الحب والخصب والجنس، وقد اعتقد الإنسان السومري وبشكل يقيني بان لهذه الآلهة وعيا وإرادة، وهي وحدها القادرة على ممارسة الفعل وتسيير الحياة وهي الناظمة للطبيعة والخالقة للكون، وقد تجلى ذلك بشكل واضح وصريح بنص سومري يسمو بالإله «انليل» ويعلو به.. يقول النص السومري:
انليل ذو الأمر الواسع المدى الذي كلمته مقدسه
«انليل» الرب الذي لا يبدل كلامه
الرب الذي يقدر المصائر الى الابد
«انليل» الذي يحكم ارادات القوة والسيادة والإمارة
ان هذا المقدس والذي هو نتاج الخيال السومري قد استمر بصورة مطلقة، بحيث أصبح لهذه الآلهة الافتراضية مجمع الهي ووضعوا له رئيسا وشبهت تلك الآلهة بالإنسان البايلوجي التاريخي، حيث صورت «الآلهة» بان لها رغبات وأحاسيس واختيارات واحتياجات، إلا أنها تتميز عن الإنسان بخاصية ذات أهمية فائقة وكبرى والى الآن في حياته ووجوده وسيكولوجيته وهي موضوعة الخلود والخوف والفزع من الموت والفناء وكلكامش ورحلة البحث عن الخلود» كون صفة الخلود والسرمدية شيء خاص بالالهة وبما ان كلكامش لم يكن الها خالصا فلا يستحق الأبدية. لقد صور لنا الأدب السومري قوة الآلهة وقدرتها وكلمتها ليس على الإنسان فحسب، بل امتدت قوتها المؤثرة على الطبيعة وعناصرها الصماء، فنرى في عهد الملك «جوديا» صادف ان انخفض منسوب المياه في نهر دجلة، وقد عزى الكهنة سبب ذلك الى غضب الاله «ننجرسو» وليس لقلة الأمطار وعدم ذوبان الثلوج كما أشار الأستاذ طه باقر في كتابه «مقدمة في تاريخ الحضارات»، وقد تمت مصالحة الإله «ننجرسو» وإرضائه ببناء معبد جديد له وفق تفسير حلم الملك «جوديا» من قبل الكهنة، وفي قصة الطوفان تم تسريب معلومات تفيد بان المجمع الإلهي قد غضب على البشر وقرر تدمير مراكز العبادة وإهلاك الذرية البشرية، وقد نصح الاله «ايا» رجل شورباك قائلا:-
يا اوتوينشم
يا رجل شورباك
اهدم الدار «الكوخ»
وابن املاكك
وانقذ حياتك
ارحل بها
وخذ بذرة كل حي
إن الأدب السومري صور لنا قدرة المقدس الإله وقوته في إخضاع الطبيعة وتغريب الإنسان، كون الآلهة - كما اعتقد الإنسان السومري- هي أصل الحياة والحق والعدل واصل الكون والأشياء فهي الفاعلة والغاضبة، وهي التي تمنح الخير وتدفع بالشر وهي التي تدير الحياة بكليتها، وهي التي تحمي الإنسان متى ما انصاع لإرادتها المطلقة ووفق رؤيتها ومشيئتها.لقد احتلت الآلهة كل فضاءات الحياة سواء الاجتماعية منها أم الطبيعية، ولم يبق الأدب السومري للإنسان التي تم تغريبه سوى أدب المرئيات والمواعظ والتراتيل الدينية وما شابه.