ادب وفن

(درابين).. صهيلٌ في خضمّ السرد / قراءة: صباح محسن جاسم

صدر للشاعر والروائي العراقي توفيق حنون المعموري عن دار "جان- للنشر في المانيا" روايته الثالثة "درابين" مستكملا روائيا ثلاثيته " الخلوي وللهروب خطوة اخرى"، التي يرى فيها انها بمجموعها "تمثل محنة الانسان العراقي ومعاناته ابتداءا من 1963 الى ما بعد 2003".
"الدربونة"، مفردة تراثية شعبية عراقياً ، مشتقة من "دَرْب" ومنه سير الخشب الطويل "درّاب". فهي المنفذ المروري ما بين بيوتات الساكنين في الحي السكني كما توحي بالجيرة فهي من اسم لمّة من يعيشون بمشتركات. هي الوطن وعشّة السنونو والمجسّر بين ماض مندرس وحاضر واعد.
لعل السارد قد تقصد بدء الحديث من منتصف نهار يومه السردي هكذا "عاد زاهد المسعود إلى مدينته ظُهر هذا اليوم".
- عاد – أي سبق الكلام رحلةٌ أو سفرٌ ، و- زاهد المسعود – التسمية لدى الكاتب مضمنّة بدلالة يكتشفها القاريء الحصيف اثناء سير الأحداث. ثم - ظُهر هذا اليوم – زمن السرد. الظهيرة اللاهثة بتعب السفر والعطش. فالسارد يقلّص فضاء الحكاية مثلما يضغط على حفنة فحم فيشعّ ماسَا مبْئرا الوطنَ المحبوس داخل مصباح العبارة "درابين" والتي صاغ الكاتب من تكرارها مفردة وجموعا ، لبوس فانوسه السحري وامله المرتجى " لن اترك تلك الدربونة، ولن أهجرها ما دمت حياً، انها مكمن أحلامي ومرتع صباي، ونعيم شبابي، ولابد أن أحيا وأموت فيها". فلا غروَ ان يفرك على فانوسه سبعا وثلاثين مرة مرددا إياها بدرجة لونية تخالف سابقتها ولاحقتها بحكم عشقه لها، و"الدربونة" لا تقف موقفا سلبيا مما يجري بل تشارك هي أيضا في نضال زاهد ورفيقه رياض، بطلا الرواية الأكثر ايجابية فتحميهم حين يلوذان بها" فـ "الجريح أحد شباب دربونته"، وقفات وامضة بالحراك التضامني فلا يشعر القاريء معها برتابة المتابعة وهي علامة ايجاب لصالح مهمة السرد.
شخوصٌ اصطفى الكاتبُ أسماءهم بدلالات:"ابن الكاظم". والكاظم – على الغيظ – مثالٌ للصبر. اذ يقف ضريح – ابن الكاظم – "احمد بن ابراهيم بن محمد العابد بن موسى الكاظم ع وكنيته ابو جعفر"، محطة استراحة بل زوّادة روحية يستمد منها المسافر مضغة المواصلة. ومثل ذلك اختياراته لأسماء شخوص روايته او بالأحرى حكايته السندبادية. فـ "زاهد" الشخصية الرئيسة تكشف عن مدى زهده في الحياة التي وجد فيها نفسه محبوساً داخل قالب يشابه حذاء قدم طفلة صينية. ومثل ذلك اخوه الشهيد "زكي" ممن قدّمه زكاةً لمبدئيته ، وكذا صحبة سفره "رياض" المتفائل والوسيم المبتهج " وسمير وامير وياسر وابو احمد واخيرا سوسنته "حبيبته سوسن"، كلها عناصر تبشّر بالأمل والرضى.
المحنة تبدأ هكذا. "جئتك طفلا، ابحث عن اشيائي الضائعة ... سنواتي المهدورة .. لائذا من اولئك الذين حملوا .. مشاعل النار واحرقوا فيها كلّ جمال متقد في الذاكرة .. وقبل كل ذلك احرقوا الأنسان ..".
وماذا بعد .. " خيول متصاهلة راحت تدقّ في امّ رأسه" .. جامحة " تُسابقهُ أينما حلّ ".
سنتابع هذا المفصل الخاص بالخيول المتصاهلة والذي يُذكّر بجواد نصب الحرية في بغداد لطالما ركزّنا في قراءتنا على مشهد "الخيول المتصاهلة" والذي اعتبره الخيط الناظم لحيثيات السرد منذ ما قبل الأبتداء وما بعد اكتمال احداث الرواية. فقد ركز الكاتب على تعبيره التشكيلي "الخيول المتصاهلة" ثماني واربعين مرة ! ختمها بـ " هنا فقط استبدل زاهد المسعود صهيلَ خيوله بضوضاء رِقْص ..... يقطرُ دماً.
خيول ترجّلَ زاهدُ من على ظهورها منذ " دخل معسكرات التدريب، بدلا من أن تطرُقَ على أمّ رأسه راحت تدق بحوافرها أرض قاعة الاحتفال ".. والكاتب يمازج ما بين دق حوافر الخيول الراقص وقصف طائرات الاحتلال وهي تطرق على رؤوس مثابات بغداد بل العراق كل العراق.
واذ نباشر القراءةَ حتى تضجّ المخيلة بذكرى الحصار والانتفاضة مطلع تسعينيات القرن الماضي. فكان رصداً تاريخياً وتوثيقياً سيما والكاتب قد عايش ما يرويه على طول مجرى احداث ثلاثيته وتأكيداً على ما ورد في الرواية.
زاهد ورياض ثائران يواجهان الموت بصدور عارية . على انهما ايجابيان. انفصل رياض منتصف الرحلة ليعود إلى بغداد بسبب مرض ألمّ به بعد ان مد صحبَه بما يشفع مواصلة الرحلة.
يغطي مسار مكان الرواية فواصلَ محطات لكل من بابل وبغداد وعمان الأردن وساحل مصر واخيرا ليبيا. ويكشف بواقعية معاناة العراقي حين يُقتلع من موطنه مثلما تُقلع الشجرةُ ، فتضطره الحال الى الضياع في الغربة تاركا والديه وعائلته وبرعمَ حبٍّ لنبتةٍ غضّةٍ وامضة .
حبٌّ شاء له أن يقاوم وان يتشكّل من جديد في بلاد اخرى بذات الأرض أنّى اختلف عليها من موجودات ورياح ونسائم!
حكاية عاشها وعانى من ورائها غالبية العراقيين .. بذات المسار وان اختلفت الأماكن على ان الزمان نفسه ، حقبة مريرة هرست الشعب العراقي بكل اطيافه ولا تزال آثارها المسرطنة تستشري بحثا عن نفوس فاسدة ضعيفة.
يستشعرنا الكاتب بثلاثيته وبخاصة مفردة – الهروب – منذ الصفحات الأوَل وحتى الأواخر " خذ ما اعطيتني وامنحني فرصة الهروب. ص 5 و"الاندفاع نحو الغربة":
- " هيا اذا، لنهرب من هذا المكان كي لا نتذكّر احتفالاتنا."
الشعر يغالب السرد ويكاد في معظمه يكون جزؤه الوامض ، إذ ينساق الكاتبُ بمغنطة سحر الشعر فلا يني من مرافقته في رحلة القلق :
" ما الذي صيّرك شاعراً يا زاهد؟
- أنتِ والغربة !!
- وفي العراق ؟
- انت فقط" !
فالكاتب – الشاعر ينحاز الى شاعريته رغم سحر متناوله السردي ، فلا غرابة أن نعيش منثوره الشعري الجيّاش بالحراك " .. فمُدُنُهُم التي تركوها: صخبٌ وحركةٌ ونشاطٌ وجَلَبَة ، عسكرٌ وصواريخُ وشظايا ، حرائقٌ ودخانٌ وسماواتٌ داكنة ، يتجردون من ظلالهم عبر أيامهم المنتظرة. هنا لا تلد الأرضُ عشاقا ، وبرغم الألم تلد الأرضُ هناك عشاقاً ومُحبين كثار مع كل بزغة شمس ، يتناسلون في تلك الدرابين كأشباح تستظل بوجه القمر، والقمر هنا يتسلل من اسلاك ليلته المقفرة ، ينامون هنا على حافة الوقت من دون ملامح، مثل صفصاف الفرات وهو يتلمس عري الماء".
زاهد وسوسن حبيبته لم تكن احتفالاتهما في بلدهما اكثر من حروب "فبدلا من الألعاب النارية والموسيقى كنا نحتفل بمشاهد الأنفجارات، ونرى الألعاب النارية أعمدة دخان تتصاعد من البيوت والعمارات ، نرقص على انغام القصف الجوي واصوات المضادات الأرضية وهدير الطائرات وزعيق سيارات الإسعاف".
هي رواية الاغتراب والحب - الشجرة ، إن تعرقلَ مسارُ جذورها تكيّفت وتجاوزت شقاء المحنة لتواصل النماء. تتشظى فيها الشخوص والأحداث داخليا لتلتئم من ثم متماسكة في الخارج.
اربعة وعشرون فصلا لرواية بحكاية ملونة المفاصل كأنما صيغت لتحتضن ساعات يوم واحد .. يومٌ يبدأ نازفا ثم ينتهي بتوقّعٍ لنزيفٍ دمويّ قادم في هاجس التهيؤ لأم الفواجع . "حينذاك فقط ترجّل زاهد عن جواده الذي كان قد امتطاه ولم يحسب أنّ قوائمَه من خشب، روى معظمَ حكايةِ مَنْ دوّى صهيلُ خيوله حتى وصل إلى عنان السماء مرات متعددة لترفسَ حوافرُ تلك الخيول الجامحة أعماقَ المجرّة موصلةً صوتَ الأرضِ بسماء الله، حين ترجّل هذه المرة عن ظهر ذلك الجواد الشهم، أيقن أنه لابد أن يُكْمل الحكاية".
عود الى استعارة وتوظيف الحركة التشكيلية لخيول السرد اذ نلاحظ في استهلال الرواية في الصفحة الثالثة، هذه اللوحة التشكيلية المعبّرة "خيول متصاهلة راحت تدق في أمّ رأسه، كانت تلكمُ الخيول الجامحة تُسابقهُ أينما حلّ منذ أن دخل معسكرات التدريب، ألمٌ حادٌّ يستقر في ذاكرته، هذا المكان الذي يُكنّ له كل الحب لم يعد يعنيه في شيء". في حين خاتمة الرواية تعيدنا الى اللوحة التشكيلية ذاتها ولكن بفارق بسيط، "الآن فقط ترجلت كل الخيول الجامحة التي رافقت زاهداً منذ أن دخل معسكرات التدريب، بدلا من أن تطرقَ على أمّ رأسه راحت تدق بحوافرها أرض قاعة الأحتفال تشارك الناس فرحتهم، هل شاهدتم رقصة للخيول من قبل؟".. بداية وخاتمة أشبه بقصيدة مدوّرة!
المأساة ان الرحلة التي بدأت اول ما بدأت برقص الخيول أزيحت إلى ما هو في الضد من كل ذلك "ضوضاء رقْصٍ يقطرُ ... دماً ". ضربات لفرشة فنان يحيلنا الى نماذج انسانية اغترابية داخل الوطن وحميمية خارج حدود زنزانته " الداخل إليه ملعون والخارج منه مأمون". وقد يلتحم الداخل حيث الأسرار والخارج عبر منظور مشترك الآ أنه يبقى يبحث عن مشهد!
تشكيل آخر يمنحنا مخيالا اوسع بالنسبة للخيول المتصاهلة.. نقرأ "حتى لو اتفقت كل جياد العالم لتقف أمامه متصاهلة وقتئذ ، فقد يلجمها ذلك الصوتُ الأرعن، ..".
صهيل الخيول لازم الشخصية الرئيسة في الرواية "زاهد" وصار جزءاً من كيانه " .... الصهيل " الجامح الذي لا يفتأ يلاحقني مثل ظلي ". صهيل خيوله الجامحة مرة اخرى يهزّ كيانه، حين عاد الجراد الزيتوني يحمل بنادق الكلاشنكوف"، زاهد الذي "راح يتوافق مع صهيل خيوله الذي يكاد يثقب رأسه".
صهيلٌ "أخف من هدير الطبول التي أخذت تزمجر بوحشية على الرغم من حوافر خيوله التي ترفس في دماغه".
ولطالما رافقت الخيول المتصاهلة رحلة زاهد وغيابه "... تعاوده خيوله المتصاهلة من جديد في سفرة اخرى". فيمتطي زاهد " احد خيوله الجامحة، كان قد اختار أقواها"، انما يخاطبها كرفيق سفر وكفاح " لله دَركنّ ياخيولي الجامحة وانتنّ تتراكضنَ معي الآن" ، استنطاق يشحذ ذهنية القاريء للتحليل لا لقبض ريح فلا غرابة أن يمتطي الهوام " حصانه المجنون داخل القلوب." وان يحيله والحصان الى كائنين يؤديان " رقصتهما المحببة ".
رواية لا نزال نعايش اسبابها والكثير من نتائجها بل وحتى نبوءاتها السياسية – رغم صدورها المتأخر الآ ان وقت كتابتها سبق ذلك بسنوات مهلكة عايشها الروائي بتفاصيلها المملة وصار يتلمس آفاق لعبة "البيه الكبير" ، فأنت منذ الآن مقبلٌ على موجاتِ جراد ٍ أعتى واعنف من جرادك الزيتوني ذاك الذي لعنتهُ يوما".
بين ايدينا عمل ادبي روائي جزء مكمل بنائيا لثلاثية تشكل انعطافا مهما في فنية السرد وبلاغة الصورة الحسية برمزية موضوعية لمعاناة عاشها وتعايش مع احداثها كل من الروائي واهله وصحبه،وقائع تتماثل تماما في رفع درجة التفاعل بين نص تسجيلي تاريخي يمور لينوش من التراث حميميته ونص شعري قوامه التشوّف لرؤية مستقبلية تسعى الى حش أدغال ابتلي العراق بواسطتها في عرقلة طريق مساره الحضاري والتاريخي.
من هنا يمكننا القول إننا أمام عمل منسوج بشاعرية وبلغة سلسة وبقيمة جمالية راقية التكثيف واسعة الرؤيا مضمّخٌة بواقعية تشوبها بعضُ فنتازيا غير مفروضة بل نشأت من خضمّ احداثٍ سَبرَت خواتيم تاريخنا المعاصر ..