ادب وفن

اضواء على قصيدة .. ناصر الثعالبي : النظرة الاخيرة في وداع الاميرة / عيسى مسلم جاسم

ونحن على مقاعد الدراسة الجامعية، نهلنا من الأدب الجاهلي ما لذ وطاب، فكان الشعر سيد المضارب، والقصيد خمرة وميزة المضايف، واعتادت العرب عبر شعرائها، أن تفوح باطايب الكلام وبالوان زاهية من الاغراض، لكن من يفتح شهية الشاعر والسامع هو "المقبلات الشهية، ومن ثم للوجبة الدسمة" عبر مداخل القول الشعري، لذا نراهم يستهلون شعرهم ببيت، او نتفة بمعان هي بعيدة بعض الشيء عن مربط الفرس، فعلى الاغلب تبدأ القصيدة حيث التغني بالناقة، ومضارب القوم، والأنس بأنفاس الحبيبة عند المراعي أو الأرتواء لمرتين عند عيون الماء، ضاربين عيون الرقيب بحرارة الحب وصدق المشاعر.
وتوارث الشعراء هذه الصيحة الأدبية عند بزوغ شمس الدين الجديد "الاسلام" فهذا "كعب بن زهير" المهدور دمه، والنازح الى اليمن للخلاص بجلده: يقرر يوماً ما العودة الى زعيم الاسلام، ويبدأ بالقصيد وعلى الرغم من رهبة الحدث، وقدسية الحضور، يبدأ قصيدته النادمة والجادة بمستهل غزلي: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول...
أما في العصر الحديث نقرأ "للجواهري" قصيدة غزلية بنفحات سياسية، في حين نرى "نزار قباني" ينظم قصيدة سياسية معطرة بالحب والوجدانية.
السطور أعلاه قادتنا اليها قصيدة "وداع – للشاعر الشعبي ناصر الثعالبي المنشورة في الصفحة الثامنة "أدب شعبي" لجريدتنا الأثيرة/ طريق الشعب، بعددها 100 ولسنتها المباركة 81، ليوم الخميس المصادف 7 كانون الثاني 2016.
تألفت القصيدة الشعبية من قرابة خمسين سطراً وتلوح بثقة بشهادة تخرجها من الدراسة الحدثاوية، ومذيلة ومن الجهة اليسرى عند الاسفل بتوقيع عميد الدراسة "محمد الماغوط" وباجماع من الاساتذة الآخرين، فكان الشاعر ناجحاً بدرجة "شرف"، ومع كل هذه المؤهلات، الا ان الشاعر يقتبس بعضاً من محاضرات مدرسة "التفعيلة" مع أنه عبرها ومنذ حين، فلا مناص من ذلك لضرورة أصول اللعبة، وللضرورة الماسة الى جمالية الايقاع، والنبرة الموسيقية، وهذه ثوابت مهمة في الشعر الشعبي، لاعتباره، شعر المنابر والصالات، وحضور الجمهورين العمودي والافقي معاً، فهي سربال ملون أنيق يصلح لكل الأجناس والمقاسات.
هذا "ابن رشيق القيرواني" – يقول: "المجاز في كثير من الكلام، أبلغ من الحقيقة، وأحسن موقعاً في القلوب والاسماع لأحتمال التأويل". لنرى واحداً من الناس، من الشعب، الشاعر الشعبي المعروف "احمد فؤاد نجم" كيف يمزج بين مدرستي الرومانسية والواقعية فيقول:
كنتُ بحلم بيكي انتي
ومين سواكي
يا حياتي .. يا ملاكي
يا نسيم الحب لما هب، هز الگلب هزه
يا حلوة الأحلام يا عزة...
ونظراً للأحكام الاستبدادية، يختتم قصيدته بالواقعية:
وانتهى الحلم الجميل
وابتدا الهم الثقيل
فين إمام؟!! من ديوان "بلدي حبيبتي" أوليات الحداثة في الشعر الشعبي العراقي – غالي الخزعلي.
حاولت جاهداً أن النسيج المتشابك بين المعنى الباطن والظاهر أو "الفنتازيا" والرمزية، ولم أفلح، وعبر عشرات السطور من قصيدة الشاعر، لو من بعيد، أو قريب، فكانت غزلية بـ"امتياز" لنبدأ بالسطور الاولى:
لا تگولي روح
وتودعيني
والله متعوده
عليچ عيوني
وعلى الرغم من رومانسيتها الصافية، الا انها لا تخلو من الهم، يقيناً هذا الهم لم يكن "ذاتياً" أي بين طرفي المعادلة الوجدانية، من المؤكد كان موضوعياً، وخارج عن يدهم، فلا يصح أن تقول الحبيبة لحبيبها "روح" وفتح ملفات الوداع، للابد هنالك "في الجو غيم – المطرب: محمد عبده" ما هو حجم هذا الغيم مفرّق الأحبة، لا ريب ومهما اكتفينا بالجانب "الوجداني نكون مرغمين، مذعنين، الى ان ذلك تياراً عارماً باجواء سياسية اجتماعية، واعرافاً وسنناً دينية، استمدت شرعيتها من الدساتير الوضعية، وادعت كونها "سماوية".
ثم لنرى السطور الأخيرة من القصيدة، والتي لم تبارح الحزن "الوداع" فيقول:
إدموعه الله.
لو يشط بينا المزار
اخذي ذمتي وياچ/ لا تبريني.
لا ريب بذل الشاعر ما بذل، ثم سلم الأمر للقضاء السماوي. لذا توجه الى السماء "ترنيمة المضطهد في عالم بلا رحمة – ماركس" أما السطور الأخيرة تترجم حالة التلاحم بين الأحبة، والصدق المبدئي، والهزء بما ترسمه الأقدار "اخذي ذمتي وياچ تبريني".
فاتني أن أشير الى ان الشاعر مهد للقصيدة "وداع بـ"توطئة يقول فيها: ها أنت تتأهبين لملاقاة الغروب، أيتها الأميرة".
يقيناً ان الشاعر على دراية تامة، عبر مرصده "الفكري" ولم يرفع الراية البيضاء، بل جند كل فصائله لأجل العزيز، الحبيبة، الوطن، المبادئ، وعموماً كلهم احبة، يستأهلون الغالي والنفيس. لذا نرى الشاعر مع رومانسيته، ينفجر عنفواناً:
أنا الوي الدهر
لو مره لواچ
وادري دهري أبد ما يلويني
نعم الشاعر يتفوق، وهو يغذ السير في صالات الدراسة للمدرسة الواقعية "الاشتراكية".
من البديهيات أن مفردة "الأميرة" تعني الجمال والدلال، كما تعني ايضاً المنعة والقوة والكمال. لكن أميرة الشاعر هي الاعلى والأسمى ولو في عيونه هو، و"هو" تعني أبناء جلدته، وعالمهم الواسع المهمش ولو كانوا معاً لفجروا صباحاً جديداً مورقاً، لا ريب هو الواثق من انتصار قصيدته ولي عنق الدهر، بكل معاني المفردة الأخيرة.
لكن نتساءل ما هو سر القوة لدى الشاعر، وهو لسان حال المحبين عشاق الحرية والكرامة والغفو في احضان الأحبة لنرى من جديد:
شايل اجروحي بصمت تدريني
العشگ ياخذني، ونا بليه عشگ
شوگي يكفي الناس، ما يكفيني
اي عشق بهذا العنفوان، بهذه القوة والاقتدار لابد ان يهزم المستحيل، فشاعرنا، يشاطر ثقة "أبي القاسم الشابي: اذا الشعب يوماً اراد الحياة – فلا بد أن يستجيب القدر، ولابد لليل...
ويستمر تفاقم الثقة وجسامة الاصرار، لنقرأ:
خاف ياخذني افراگچ للگبر
اتعارك ويه الموت/ من يلفيني
التحدي الكبير، لم يولد من فراغ، لابد من سلاح ينطلق من الدواخل ويتواصل ويتحدى "الموت"سُنة قاهرة، فلابد من استكمال الأمر وان خيوط الوداع، تصبح واهنة، كخيوط العنكبوت، فلا فراق بعد الآن لسان حال الشاعر. هي لحظات "مريرة وليل طويل" لابد من فجر.