ادب وفن

تأمل النص التشكيلي / قاسم العزاوي

ما الذي يميّز الفنان الخلاق من غير الفنان؟
بهذا التساؤل الذي طرحه جيروم في كتابه النقد الفني، ستكون سياحتي في المنجز البصري للفنان ابراهيم سالم، وأتناول جانب الرسم فقط واؤجل منجزه النحتي لموضوع آخر. إن ما يميّز الفنان الخلاق عن غيره هو: التكوين النفسي والانفعالي والقدرة التخيلية وامتلاكه الموهبة الخلاقة، وكما يسميها (كانت) بالعبقرية، اعني الموهبة، وان أراد الناقد التشكيلي الخوض في عالم أي فنان، عليه أولا الحصول على معلومات تجريبية عن ٍالفنان، ويتابعه مختبرياً للوقوف على مناطق اشتغالاته المتعددة.. وأرى أن الفنان إبراهيم سالم في منجزه البصري التشكيلي/ الرسم.. ينحو باتجاه الرؤية المتخيلة والجاذبة لموجودات ما علق بمخيلته الخصبة وما تراكم في ذاكرته من رؤى وأحلام وأمنيات، ليفرزها على سطح خامته وبتلقائية بعيدة عن القصدية والمباشرة، ناهيك عن تحطيم الأبعاد والمنظور، ويترك المتلقي بتجميع وتصوّر هذه الأشياء المبثوثة كشفرات عليه بحل ألغازها وقراءتها بما يتخيّل وبما تحيله لذاكرته من معان.. هذا أولا: وثانيا يتخذ المشهد التشكيلي البصري للفنان إبراهيم سالم، سياحة فيزيائية للفضاء المترامي ومتابعة ما يدور هناك من تغيرات فيزيائية وأجرام متناثرة وذرات تتحطم وتتجمع وتدور في الكون الأحدب، وكأنه أراد أن يبوح لنا بما يخفي هذا الفضاء وبعظمة موجوداته وما علينا إلا التأمل والانبهار، إضافة إلى: التوالد والتطور وحراك المعنى وتصادم الأضداد....
إبراهيم سالم، لم يغفل أمنيات وأحلام الطفولة البريئة، تلك الأمنيات المطبوعة بذاكرتنا الجمعية والتي ما فارقتنا يوماً ولا خبا بريقها، هي قناديل ذاكرتنا كما يقول (باشلر) ولا أظن أن أحدا استطاع أن يتجاوز هذه الأحلام البريئة مهما بلغ من العمر عتيا!.
نرى هذه الأمنيات مبثوثة على سطح قماشة اللوحة وتحيل ذاكرتنا إلى ملامستها والتوقف أمامها ومداعبتها وتترك أثرا جميلا لدى المتلقي وهو يحاول مسكها وكأنه يريد امتلاكها الآن بعد أن حرم منها إبان طفولته، وقد يبتسم بفرح طفولي ..
تعددت الأساليب والرؤى في منجز الفنان إبراهيم، من تعبيرية ورمزية وبمقاربات تجريدية حداثوية، ورغم تعدد هذه الأساليب لكنه ترك بصمته الخاصة والمتفردة في منجزه التشكيلي، وبتقنيات عرف كيف يعالجها، ولجأ في بعض الأعمال إلى رصف عدة أعمال في لوحة واحدة، أي يحتويها إطار واحد وهذا لا يؤثر على بؤرة استقطاب عين المتلقي ويشتتها ويفقدها راحة التأمل والاستقراء...
وفي قراءة لإحدى لوحاته التي جمعّها من عدة لوحات في لوحة واحدة، انه ترك إحدى اللوحات فارغة، كي يشرك المتلقي في ملء هذا الفراغ وبما تراه ذائقته الجمالية من بدائل وإضافات، وهنا حقق إمكانية تحفيز المتلقي ليضيف من عندياته تصوراته بما سيكون شكل المربع الفارغ ، وستترك أثرا جميلا عنده حتى بعد مغادرة المتلقي لوحة الفنان ابراهيم... وهذه الاسلوبية، أعني ترك الفراغ باللوحة دون إتمامها، ليست بالجديدة فلقد زاولها العديد من الفنانين التجريبيين والباحثين عن ما هو جديد!.
تعددت خامات الفنان المستخدمة في مشهده البصري، من الكانفاس والبورد وألوان الاكريلك والزيت والووتر بروف، إضافة إلى مواد مختلفة أخرى ونلاحظ الملمس الخشن والبارز في معظم أعماله، هذا لان الفنان هو أساسا يشتغل بالنحت، لذا أراد أن يعطيها سمة النحت البارز(الرليف) وهذا لا يؤثر على جمالية اللوحة على أي حال...ولقد كان موفقاً في استخدام هذه الخامات المتعددة في منجزه البصري التشكيلي ،وحقق العلاقة الحميمية بين المتلقي والعمل البصري بتلك الروابط الجمالية والرؤيوية...
وكما قلت، لأن الفنان يشتغل بفن النحت، وكما هو معروف أن النحت يفتقد إلى اللون، لذا فرغ الفنان ابراهيم طاقاته اللونية الخزينة على قماشة اللوحة وتنفس بعدها بارتياح، وكأن اللون كان يحاصره ويبحث عن مخرج ليشيع الفرح باللوحة التشكيلية... والعديد من الفنانين المشتغلين بالنحت، مارسوا الرسم إلى جانب النحت ، وواحدة من أهم الأسباب التي تدعوهم للرسم هي الطاقات اللونية المخزونة عندهم، وثانيا أن بعض الأفكار والرؤى، تلاقي صعوبة في تنفيذها على خامات النحت المتعددة من: حجر وخشب وبرونز، يضاف لهذا مما للنحت من صعوبة اشتغالية، سوى بالطرق بالأزاميل والصب والحفر وغيرها، لذا يلتجئ بعض المشتغلين بالنحت إلى الرسم لتفريغ هذه الطاقات ،والقائمة تطول إذا ما أردنا أن نضرب مثلا على هؤلاء النحاتين، ومنهم جواد سليم ومحمد غني حكمت وإسماعيل فتاح الترك وآخرون.....،
وأرى أن الفنان إبراهيم سالم قد توفق كرسام كما هو كنحات وترك بصمته في المشهد التشكيلي العراقي المعاصر، صاحب الريادة في الفن الجميل .. والجميل جدا.. لذى نراه يتأمل نصه التشكيلي البصري بعينين ثاقبتين ويتصور مقترحه الجمالي قبل أن يفرغه على خامته الحاوية لهذا النص البصري، وهذا يعني انه يؤهل الفراغ قبل الشروع بالتنفيذ وقبل ان يضع (اسكيتشات) له ، إذ لا حاجة لهذه الاسكيشات وإنما هي مرسومة مسبقا في مخيلته وما عليه إلا التنفيذ وإخراجها بشكلها النهائي... نعم انه يتأمل نصه الجمالي.