ادب وفن

من ذاكرة مدينة تبقى راية الحزب خفّاقة / محمد علوان

في سبعينات القرن الماضي، وتحديدا في أواسط عام 1977، استلمت كتاب نقلي من دائرة المركز العام في المنشأة العامة لتجارة المواد الغذائية الواقع مقابل البنك المركزي في شارع الرشيد، وتحويلي من موظف مسؤول شعبة الطابعة الى وظيفة "معاون امين مخزن" في مخازن الاسكان.
شممت رائحة القصد المبيت من نقلي الى هذا المكان البعيد عن محل سكني، الذي جاء بعيد انهيار "الجبهة الوطنية"، فإما الانقياد الى "البعث" أو النقل الى ما يسمونه "المنفى".
كنا يومها نسكن في قطاع 18 حي الاكراد، ومحل عملي في إسكان غربي بغداد.. حاول أحدهم التخفيف من ضجري وغضبي، وأسرّني ان هناك خطا حكوميا ينقل العمال من مدينة الثورة الى الاسكان.. تبين فيما بعد انها كانت سيارة نوع OM بيضاء يقودها رجل في اواسط العمر اسمه "ابو ليلى"، ويجلس دائما في المقعد القريب منه شخص اسمه "جواد"، وهو رجل طويل القامة ونحيف ويمتلك القدرة على الغناء والرقص بشكل رائع.. وكان يحمل بيده جهاز مسجل نوع "ناشيونال"، يلقمه بأشرطة تبدأ بعبادي العماري وتنتهي بعبادي العماري، واحيانا "يكحلها" بالسوداني سيد خليفه، ويعيد اغنيته الشهيرة " ازيكم.. اشلونكم"، فيبث روح المرح والفكاهة طوال رحلة السيارة الطويلة.
بدأت رحلاتي اليومية ذهابا وايابا من الثورة الى الاسكان ومن الاسكان الى الثورة.. ومن خلالها توطدت علاقتي بالكثير من العمال الرائعين، ولمست رائحة اليسار تفوح من اغلب ركاب السيارة، بدءا من ابو ليلى وجواد، الشخصية المثيرة للمرح والفرح.
وفي اليوم الذي يلي يوم 1 ايار عيد العمال العالمي .. صعدت الى السيارة لأجدها مزينة من اولها الى اخرها بالألوان والورود الاصطناعية والطبيعية، وحالما صعدتُ، نهض ابو ليلي من مكانه خلف المقود ليعانقني ويهنئني بعيد العمال.. وهو يهمس في اذني:" اينما ينقلوننا.. فستبقى راية العمال خفاقة".. ثم اكمل جواد و"راية الحزب خفاقة"، هتف جميع من في السيارة:"ستبقى راية العمال خفاقة".. واكملت معهم اللازمة التي اخترعها جواد و"راية الحزب خفاقة".
كانت تلك بداية ترسيخ علاقة هائلة قامت بيني وبين اكثر من عشرين عاملا هم ركاب سيارة ال OM البيضاء التي يقودها اليساري الرائع "ابو ليلى"، ثم ازداد نشاط "اليسار" في مخازن الاسكان، وتحولنا الى معسكرين.. معسكر لهم ومعسكر لنا.. حتى في المطعم نجلس نحن في طرف، ويجلسون هم في طرف آخر، وكانت عجلة التسقيط مستمرة، بدأت ببعض ركاب ال om واستمرت في سيرها بين مكاتب الموظفين ومخازن العمال.. فيما كنا نحن نقف لهم بالضد.
تحية الى الأول من ايار عيد العمال العالمي.. وستبقى راية العمال خفاقة وستبقى راية الحزب خفاقة.