ادب وفن

قراءة في كتاب / بغداد بين القاضي والدرويش / مؤيد عبد الستار

عندما كنت طفلا ، رأيت الله ،
رأيت الملائكة ،
رأيت اسرار العالمَـين العلوي والسفلي .
ظننت أن جميع الرجال رأوا ما رأيته.
لكني سرعان ما أدركت انهم لم يروا ...
شمس التبريزي.
في رواية قواعد العشق الاربعون للكاتبة اليف شافاق ، عن حياة جلال الدين الرومي ، اقتباس على غلافها الاخير جاء فيه ( تمسك قطعة من الحجر بين اصابعك ، ترفعها ثم تلقيها في مياه دافقة . قد لا يكون من السهل رؤية ذلك . اذ ستتشكل مويجة على سطح الماء الذي سقط فيه الحجر ، ويتناثر رذاذ الماء ، لكن ماء النهر المتدفق يكبحها . هذا كل ما في الامر . ارم حجرا في بحيرة ، ولن يكون تأثيرها مرئيا فقط ، بل سيدوم فترة اطول بكثير . اذ سيعكر الحجر صفو المياه الراكدة ، وسيشكل دائرة في البقعة التي سقط فيها . وبلمح البصر ستتسع تلك الدائرة ، وتشكل دائرة إثر دائرة . وسرعان ما تتوسع المويجات التي احدثها صوت سقوط الحجر حتى تظهر على سطح الماء الذي يشبه المرآة ، ولن تتوقف هذه الدائرة وتتلاشى ، الا عندما تبلغ الدوائر الشاطئ .
اذا ألقيت حجرا في النهر ، فان النهر سيعـتـبره مجرد حركة اخرى من الفوضى في مجراه الصاخب المضطرب . لاشيء غير عادي . لاشيء لا يمكن السيطرة عليه .
أما اذا سقط الحجر في بحيرة ، فلن تعود البحيرة ذاتها مرة اخرى .)
الاقتباس الاول هو للدرويش شمس التبريزي الذي يلتقي جلال الدين الرومي فيتغير الاثنان في معادلة صوفيه غامضة تحاول الكاتبة شافاق حياكة نسيجها ومزاوجتها بقصة حب داخل الرواية بين ايلا وزوجها ديفيد طبيب الاسنان الناجح واسرتها الصغيرة التي تعيش في بحبوحة من العيش في ولاية ماساشوستس .
والتي ستطلب الطلاق من زوجها بعد عشرين سنة من زواجهما ، والسبب ( حب دهم ايلا بغتة وبعنف كما لو ان احدا القى حجرا من مكان ما في بركة حياتهما الساكنة ).
تبدأ فصول قصة حب ايلا بعد اعجابها برواية الكفر الحلو التي تثير فيها الفضول لترى اسم كاتبها ، ع . ز . زاهارا ، وفي بحثها عن شخصه تجد تفاصيل اسمه في مدونته ، فهو يدعى عزيز ، و يعتبر نفسه صوفيا .
تتناوب فصول الرواية بين قصة حياة مولانا جلال الدين الرومي وشمس التبريزي ، وايلا وحبها الجديد .
ولكي لا نفسد طعم الرواية على القراء سنترك لهم متعة قراءتها متى ما توفرت لهم الفرصة ، ولكن الذي اود بيانه هو ما ورد عن بغداد في حديث بين شمس التبريزي والقاضي في تكية صوفية .
بغداد ، نيسان ( نيسان ) 1242
كان القاضي رجلا طموحا ، ومعروفا بشدة كراهيته للصوفية ، وبقرار منه يستطيع ارسال رجل الى المشنقة ، او العفو بسهولة عن مجرم ..وكان من عادته ارتداء معاطف من الفراء وثياب غالية الثمن .
قال القاضي :
- اننا نعيش في أروع مدينة في العالم .... لكن بغداد تعج الان باللاجئين الذين هربوا من بطش جيش المغول ، ونحن نوفر لهم ملاذا آمنا . إنها مركز العالم ، ألآ ترى ذلك يا بابا زمان ؟
- لاريب ان هذه المدينة جوهرة ، لكن يجب ان لا ننسى أن المدن تشبه البشر . فهي تولد ، وتمر بـمرحلتي الطفولة والمراهقة، ثم تشيخ ، وفي النهاية تموت . وأظن ان بغداد قد بلغت الان أواخر شبابها . إذ لم نعد اثرياء كما كنا في عهد الخليفة هارون الرشيد ، لكن بالرغم من ذلك ، يحق لنا أن نـفـتخر بأننا لا نزال مركز التجارة والحرف والشعر . لكن من يعرف كيف سيكون حال المدينة بعد ألف سنة ؟ فقد يختلف كل شيء .
- ياللتشاؤم .. قال القاضي .
اثناء هذه الجلسة والحوارات بين بابا زمان والقاضي ، يدخل الدرويش شمس التبريزي ، وبعد تقاليد الضيافة والتعارف يدور الحديث بينه وبين القاضي ويصبح جدلا حول البحث عن الله ، لا يلبث ان يتحول فيه القاضي الى سؤال مثير يغير فيه الموضوع ، فيقول :
- كنا نتحدث عن روعة مدينتنا .لا بد انك رأيت الكثير من الاماكن . هل هناك اجمل من بغداد ؟
قال شمس :
- لا يجادل احد في أن بغداد مدينة رائعة ، لكن لا يوجد جمال على وجه الارض يدوم الى الابد .إذ ان المدن تنتصب فوق أعمدة روحية ، كالمرايا العملاقة ، وهي تعكس قلوب سكانها ، فاذا أظلمت هذه القلوب ، وفقدت ايمانها ، فإنها ستفقد بريقها وبهاءها . لقد حدث ذلك لمدن كثيرة ، وهو يحدث دائما .