ادب وفن

عبد الرضا بتور يؤرخ مجد مدينته بالتماثيل

البصرة - علي ابو عراق
في السبعينات من القرن الماضي، وفي ساحة ام البروم الشهيرة التي تقع وسط البصرة، التي يعرفها أغلب العراقيين كونها من أقدم الساحات التي تقع وسط مدينة العشار حيث رواج وحيوية الحركة التجارية فضلا عن انتشار السينمات والبارات والملاهي قريبا منها، هنا وفي هذه الذروة البشرية والاقتصادية ثبت الفنان التشكيلي عبد الرضا بتور نصبه الأكثر شهرة، نصب العامل حيث قام تمثال العامل بشكله المهيب وبمطرقته الضخمة وحركتها العنيفة كأنها في حركة دائبة لطرق الحديد.
او سحق رؤوس الطغاة، كانت البصرة حينها مدينة العمال والأفكار اليسارية والصراع الطبقي ، وربما اراد بتور أن يؤرخ مجد مدينته وهويتها العمالية بهذا النصب، الذي مضت عليه عقود ولم يزل شاخصا يشاهده البصريون كل صباح ويتوسمون خيرا بمطرقته، وربما يردد بعضهم اغنية السيد درويش "الحلوة دي طلعت تعجن في الفجرية"... وقد أدرك الكثير منا بعد سقوط النظام السابق.. جدوى هذه الحركة العنيفة والقوية لمطرقة العامل .. إذ سلمنا جميعا نحن الذين سحقنا طغيان واستبداد النظام السابق أن هذه الحركة الشهيرة للمطرقة ليست عبثا بل رمز لقوة الشعب وطليعته الطبقة العاملة التي أسقطت الدكتاتورية.
ومن الجدير بالذكر أن عشرات التماثيل والنصب في البصرة أسقطت ومسحت من ذاكرة الناس، وظل تمثال او نصب العامل شامخا وسط البصرة يحج له الكثير من الشيوعيين كل عام في عيد ميلاد الحزب او في الأول من ايار ليضعوا عليه الزهور الحمراء والشعارات التي تطالب بالعدالة والمساواة وإنصاف العمال والفقراء.. كما حدث في الأول من أيار في هذا العام..
وعبد الرضا بتور الذي ابدع هذا التمثال في السبعينات على نفقة نقابات العمال وتحديدا نقابة عمال البناء لا على نفقة الحكومة "كان مؤمنا بفكر الطبقة العاملة وقد انخرط في صفوف الحزب الشيوعي منذ صباه ، وكان نموذجا للمناضل الشيوعي والفنان الملتزم ". حسب صديقه الفنان صبري المالكي.
وقال المالكي:"ان الفنان عبد الرضا بتور كان أنموذجا للأخلاق والايثار والتضحية وقد اعتقل عدة مرات بسبب افكاره ، كما اعتقلت زوجته لنفس السبب ، إذ كانوا كعائلة مؤمنين بحقوق الطبقة العاملة وحزبها الحزب الشيوعي العراقي".
وأوضح المالكي:"على الرغم من ان الفنان الراحل ، لم يدرس النحت في أكاديمية أو أي مدرسة فنية متخصصة ، وكانت اعماله اقرب الى الاعمال الفطرية، لكنه كان مبدعا بشكل كبير ، حيث جسد أفكاره ورؤاه الإنسانية بأجمل ما تكون لمصلحة الفقراء من ابناء شعبه".
وقال الفنان العراقي العالمي فيصل لعيبي صاحي:" يعتبر الفنان عبد الرضا بتّور من الفنانين العصاميين، الذين شقوا طريقهم من دون مساعدة احد وبجهوده الخاصة ، حيث لم يتلقى فناننا الراحل تعليماً اكاديمياً ومنهجياً في دروس الفن التشكيلي، وإنما أعتمد على نفسه، وحاول ان يجد له مكاناً بين فنانين مهمين ومتخرجين من معهد الفنون الجميلة والأكاديمية في بغداد".
وأضاف:"وقد كان لهذا الفنان وفنانين آخرين لم يدرسوا الفن في معهد فني مثل الفنان الرائد عبد الكريم محمود ، الذي كان من رواد الفن التشكيلي في البصرة منذ ثلاثينيات القرن الماضي ، إضافة الى فترة الأربعينات والخمسينات التي برز فيها كل من الفنان هادي البنك وسليم إيليا وعبد الباقي النائب وعبد الرزاق الصانع وعبد الرزاق العايش ومحمد عبد وطه الشاوي إبراهيم الكمالي غيرهم، حيث درس بعضهم في معهد الفنون الجميلة في بغداد بعد افتتاح قسم الرسم عام1939 ، كان لهؤلاء دور مهم في تأصيل الحركة الفنية في البصرة".
وأوضح لعيبي:"لقد كان لبعض ميسوري مدينة البصرة امثال بيت آغا جعفر وبركات وآل باشا أعيان والعبد الواحد والخضيري وطالب النقيب وكذلك الشيخ خزعل دور يجب ان لا نهمله في تغلغل الفن التشكيلي داخل المجتمع البصري، إذ اهتموا بالفن والفنانين وساهموا في نشره بين البيوت المقتدرة. والتاريخ يذكر لنا ان الشيخ خزعل قد أستضاف الفنان اللبناني قيصر الجميّل، كي يرسم له صوراً شخصية و لأفراد عائلته ، وكذلك زار البصرة العديد من الفنانين الأجانب وعاشوا فيها. وبعد عودة مجموعة من خريجي معهد الفنون الجميلة ببغداد من أستاذتنا الى المدينة، توسعت دائرة الاهتمام وتطورت ذائقة جمع اللوحات وشرائها وظهرت قاعات العرض".
واسترسل:"وفي هذه الأجواء نشأ الفقيد عبد الرضا بتّور وترعرع ونما وتطور وتكونت شخصيته وأسلوبه الذي عرف به. ويمكن اعتبار قطعة الأم الخشبية، للخالد جواد سليم، المثال الأقرب أسلوبياً للعديد من نحاتي العراق ونحاتي البصرة من ضمنهم ، حيث أستمد هؤلاء أولى مفاهيم الحداثة في النحت من تلك القطعة الفنية المذهلة". مشيرا الى أن عبد الرضا "واحد من هؤلاء، وقد سار على هذا المنوال حتى أيامه الأخيرة، رغم بعض التحويرات والخروج الوقتي عن ذلك الأسلوب" .
وذكر لعيبي:"تعود معرفتي بالصديق الراحل الى أيام النشاط الفني المدرسي ومعارض مديرية المعارف آنذاك، حيث يقام في بداية فصل الربيع من كل عام معرضاً شاملاً لفناني البصرة وطلبتها الموهوبين، وتوزع فيه الجوائز والمكافآت، كما تباع في هذه المعارض اللوحات التي تحوز إعجاب جامعي اللوحات الفنية. كان الفنان عبد الرضا يفضل النحت على الخشب أكثر من أي مادة اخرى، وكان يختار القطع التي توحي له بالشكل المطلوب مباشرة ، فيعكف على معالجتها ويستخلص منها اشكاله التي تلائم ذائقته ومبتغاه."
واستذكر لعيبي:"لا أزال أتذكر نوادره الحلوة حول لهجات اهل البصرة وكيف يقلبون الحروف حسب المناطق التي يعيشون فيها ، مثل تغيير الجيم الى ياء والغين الى قاف وغيرها . وكان في تلفظه لها يجعلنا نستغرق في الضحك المتواصل، وله موهبة اخرى ، هي تقليد كلام زنوج البصرة وطريقة لفظهم المحبب للكلمات".
وختم الفنان فيصل لعيبي:"غادرت البصرة عام 1964 الى بغداد لدراسة الفن في معهد الفنون ولم أعد التقي بالأصدقاء والفنانين ، إلا في أيام العطل المدرسية، لكنها كانت لقاءات عابرة لم نتمكن خلالها من تعميق الصلة بما يكفي، ولهذا اضمحلت ذاكرتي خاصة بعد سكني ببغداد وتركي البصرة ومن ثم سفري الى فرنسا عام 1974 والغياب الذي طال حتى لقائي الأخير بالراحل عبد الرضا في العام الماضي وفي شهر آب عندما استضافني فنانو البصرة الكرام في جلسة اخوية وحميمية ، لا يزال مذاقها في الروح عالقاً. الذكر الطيب لعبد الرضا وطول العمر لبقية الزملاء والأصدقاء والمبدعين ".
وقال الشاعر والكاتب الدكتور حيدر الكعبي:"في عام 1990 كنتُ عاملَ بناء في مطعم قيد الإنشاء في شارع الوطن بالبصرة. وذات يوم طلب مني صاحب المطعم، وهو صديق أيضاً، أن أرافقه إلى بيت النحات عبد الرضا بتور، صاحب تمثال العامل، لأبدي رأيي في منحوتة كان قد كلَّفه بصنعها، فذهبت بثياب العمل. كان يفترض في المنحوتة أن توضع في منتصف حوض في المطعم الجديد".
وأضاف:"وكانت المنحوتة تمثل طفلاً عارياً بالحجم الطبيعي تقريباً، أو ربما أصغر قليلاً، وربما كان يحمل سمكة "لم تعد ذاكرتي تحتفظ بالتفاصيل". عرَّفنا رب العمل ببعضنا، فوجدتُه شخصاً شفافاً، متواضعاً، وخجولاً. وحين رآني أتأمل المنحوتة، قال: "يمكننا أن نغطي "العورة" إذا أردتم،" مشيراً إلى مؤخرة الطفل. قال صاحب العمل يسألني: "ما رأيك؟" فأبديت إعجابي بالمنحوتة، واعترضت على إلباس الطفل ثياباً داخلية. قلت هذه ليست عورة بل جزء من أجزاء الجسم. وقد سُرَّ النحات لإجابتي. وحدثني عن معاناته في العثور على موديل يقف أمامه عارياً. قال ضاحكاً:"حتى ابني الصغير يغضب حين أطلب منه ذلك، تصور." ودار بيننا حديث قصير وممتع سألته فيه عن منقذ الشريدة. فأذهلتني إجابته — أذهلني فيها نكران الذات الذي لم أعتده في الوسط الشعري الذي عايشته. لا أذكر نَصَّ إجابته، لكني أذكر فحواها. قال إن منقذ يتجاوزه بمراحل، وإنه لا يقارن نفسه به. وأفاض في مدحه. وكان بودي لو أطيل الحديث معه، لولا أن موعد الزيارة المهنية انتهى، وكان علي أن أعود إلى العمل".