ادب وفن

توجسات مالك القريشي من آفة الجفاء / عيسى مسلم جاسم

المجددون في الأدب الشعبي دشنوا مرحلة جديدة في نتاجاتهم، وهي حالة صحية، فالأدب الشعبي كائن حي ينمو ويتطور، تموت بعض خلاياه لشيخوختها من جانب، وعدم صلاحيتها، ومواكبتها للعصرنة في ظل جريان تيار "العولمة" ودخول مفردات جديدة، إقتحمت الحياة الاجتماعية غصباً، بفعل التقنيات المتسارعة، سيما بعد زوال ظاهرة تكميم الافواه والاسماع والرؤى، وهي هوية الأنظمة الشمولية الاستبدادية، وبعد جهد جهيد، وعوامل داخلية وخارجية، إنحسرت هذه الستائر البالية بعد التحول الكبير الذي حصل في الربع الاول من عام 2003.
لذا نجد مبدعي الأدب الشعبي يكتبون كتاباتهم باللغة الثالثة، هي لغة "المثقفين" وهذه الجادة العريضة، سلاح ذو حدين: الاول هو إتساع دائرة الشعبي، واستقطابه حزمة واسعة من الطبقة الوسطى والمثقفة فتقاربت المسافة بين الجمهورين، الافقي والعمودي، اذا كان ذلك داخل البلد الواحد، فالحال يفعل فعله، وبوتائر أدنى عند دول الخليج والجوار على أقل تقدير، وهذا الجانب النير لظاهرة التطور "الديالكتيكي" في الأدب عموماً، والأمر الآخر الخافت نسبياً، هو فقدان النكهة الاصلية الموازية للغة المحكية: لا ريب ان الشعبي ولد ليسد فراغاً عجزت اللغة الفصيحة عن ملئه، لذا فالحنين يبقى يتزايد الى لسان الأجداد، والذي ينُّز "الملوحة" اللازمة للطبخة التقليدية، وبوجود هذا "الملح" يحلو الطعم وتتفاقم الشهية فلربما وكأنك، أضفت ماء اكثر من المطلوب ففقد المحلول الجديد غرضه وصبغته وحتى تجاوز مفهوم "الشنينة" التي طالما تحدث عنها الشهيد "شمران – أبو كاطع".
عموماً هي الظاهرة تدور كدوران الارض، حين تسطع الشمس ضوءاً على جانب من الارض، يتضاءل عن الجانب الثاني الضوء، وينحسر عن الثالث لكن عجلة التطور تدور شئنا أم أبينا.
بيت القصيد العنوانات، وهي تهمني جداً، جداً، ولكون الأدب شعبياً، جميل جداً أن تكون العنوانات هي الاخرى شعبية كذلك، وبهذا وبمفردات العنوانات القليلة، يعطيني ايجازاً وافياً للمكنون، والعنوان كذلك هو سريّة استطلاعية، وهي أول العارفين قبل باقي الجحفل بما في ذلك قادته.
القصيدة التي بين يدينا موسومة "بالك تجافيني" تتألف من مفردتين، وكلاهما شعبيتين، وهذا جميل جداً، نسبر الغور مع مبدعها نأتي الى لمفردة الاولى "بالك" وهي تحمل اكثر من وجه فلربما بصيغة الأمر والزجر، والسلطة الصادرة من القوي الى الضعيف الاعزل، ولا مناص من تنفيذ الامر، وهو موقف يراقبه الرعب والطغيان، أما الجانب الآخر وهو المحتمل جداً في هذه الصورة الشعرية "بالك" تعني الحنين والحذر من المحظور، والتوجس من النكبات والويلات وقد يرافق هذه المفردة، الوداع وذرف الدموع وحرقة النفس، وغصة القلب لذا جاءت التوصية على أشدها، لأن الخلل فيها يعني هدم صروح قلاع عالية وهدر بناء قد استمر عقوداً حسب معيار الطرفين في القضية.
"تجافيني" – المفردة الثانية، وهي مفردة مضغوطة ومركزة جداً، جداً، ومفاهيم "النحو" هي جملة مفيدة، تحمل في ثناياها، الفعل: وفعل الجفاء، والفاعل "أنت" والفعل يقع، ربما الضحية – لو حصل الجفاء – والمتحدث "انا" هو المفعول به، والذي عانى ووقع عليه وبيل الجفاء.
"بالك تجافيني – للشاعر، مالك القريشي" وبالمناسبة، سبق لي الكتابة عنه، وبالاحرى عن نتاجاته، وعلى الرغم من"أنني" لا أرغب في أن اكرر الكتابة عن أي اسم من اسماء المبدعين، مع كل اجلالي لهم، وانا سعيد جداً أن وجبة دسمة لقلمي الذي يشكو الفاقة ويتحرق شوقاً ظامئاً لماء رقراق. هي حالات ربما قليلة جداً ان تكررت كتاباتي عن اعمال لكاتب واحد، وهم من سيل لعابي لنتاجاتهم، اذكر منهم فقط "ابو وليد – سفاح عبدالكريم، تحياتي الدافئة له".
القصيدة منشورة على الصفحة الخامسة، ادب شعبي ليوم الخميس 17 آذار 2016 وعلى صفحات جريدتنا الأثيرة طريق الشعب بعددها 149 لسنتها 81، وهي قصيدة شعبية بامتياز لم تدنسها عيوب المدنية ولم تصبها "فايروسات العولمة" وفي ذلك حجتي قوية، كما في العنوان الذي توقفت عنده طويلاً، فهو يستخدم المفردات وفق لغة النطق لا الكتابة وابرز ذلك في اضمار الألف، وكأنه يمارس عملية التقطيع للمفاعيل، والبحور والدوائر "الفراهيدية" لنلاحظ كتابة عينات عشوائية: "يلساكن، بگليبي، ونتّ".
القصيدة حدثاوية في محتواها، وتفعيلية في هندستها، وهي تتسم بالموسيقى الهادئة، والتفعيلات المتجددة، مع تساوي وقصر هذه التفعيلات وتكاد تكون تقترب من البناء الهندسي للون "الزهيري" فوضع النهايات "داويني، تعافيني، تخاويني، تجافيني" وهي محطات استراحة لاعادة النفس عند الالقاء، وهي متعة للسامع والقارئ معاً.
الشاعر قسم قصيدته اللذيذة الى اربعة مقاطع، والمفردات التي أشرت اليها هي نهاية لكل مقطع، للأمانة الموضوعية، ولكون مضمون القصيدة واحد، فلا ضرورة للتجزئة، لكن الوقفات عند نهاية كل مقطع ضرورة، كما فعلت ذلك "تدفقت" سطور القصيدة لدى الشاعر حسب تعبير "نازك الملائكة".
القصيدة تألفت من ثمانية وعشرين سطراً، وهذا العدد يقارب عدد حبات مسبحة التسلية، وهذا يعزز الرأي أن القصيدة جاءت متدفقة، وسراعاً ما اكتملت، ولم يبذل فيها الشاعر وقتاً او جهداً "مبارك لشاعرنا" بها، وكأنها تُملى عليه إملاءً.
المقطع الاول من خمسة سطور فقط والثاني كذلك، أما الثالث فله حصة الاسد، جاء بـدزينة كاملة، بقي الرابع "الاخير" تألف من نصف دزينة، فعلى الرغم من انسيابية القصيدة، وألفة مفرداتها التي تفوح دوماً بـ"الميثولوجيا" التراثية الاصيلة، وما يسرني جداً السلامة اللغوية التي تعج بها النتاجات الشعبية "للأسف" ونبهت لذلك مراراً.
يا حلو يا مملوح
يلساكن انت الروح
بهجرك صفيت إجروح
إنت طبيب العلتي
بالوصل داويني
السطور الخمسة المقتبسة هي المقطع الاول بأكمله وهو – هذا المقطع يترجم موسيقى القصيدة، ومضمون محتواها، لاحظ عزيزي القارئ مفردة"داويني" وهي خاتمة موفقة للأبوذية والزهيري والدارميات، والمتلقي النبيه يلاحظ تواجد الامور الفنية والايقاعية والتراثية التي أشرت اليها في هذا المقال المتواضع كذلك ارتياح الأذن والنفس البشرية للوقع الهادئ الرومانسي، ومع ما اوردت من الوان في النظم الشعبي، هنا نشعر أن شاعرنا قد أضاف شيئاً لذيذاً جديداً عزز فيه التراث الشعبي.
الاقدمون لهم رأي؛ فهذا الجاحظ يهمل المعنى، وبحسب رأيه يقوله من هب ودب ويؤكد على هندسة البناء؛ وشاعرنا كان معماراً بارعاً، أما إبن رشيق القيرواني فيقول: "المجاز في كثير من الكلام، أبلغ من الحقيقة، واحسن موقعاً في القلوب والاسماع لأحتمال التأويل"، أما عبدالقاهر الجرجاني فيقول: "ان يريد المتكلم اثبات معنى من المعاني فلا يذكره، باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يجيء الى معنى تاليه او ردفه في الوجود فيوميء اليه به، ويجعله دليلاً عليه، أما شاعرنا هذه المرة التي أشرنا اليها وضع رأي الأقدمين وراء ظهره، لذا جاءت مفردات ومعاني القصيدة واضحة مباشرة، افتقرت الى الرمزية، وحتى الصور الشعرية كانت بحدود ضيقة، ومع هذه الملاحظات فقد كسب جمهوراً واسعاً لاكثر من شريحة.
ومع ان القصيدة وجدانية، ومناجاة وتوصيات بين حبيبين، ويقيناً كلمة الحب عريضة واسعة، واذا كانت العرب قالت: البيت لا يبتنى الا له عمد، ولا عماد اذا لم ترس اوتاد – هذا ظاهري، والباطن أعمق، فشاعرنا قد تكون رومانسيته ظاهرياً، وباطنها واقعية اشتراكية مبدئية، وعندها تكون "الحبيبة" اوسع من الدم واللحم والاعصاب والشرايين، بل هو الحياة السعيدة، والحلم الذهبي، والسلاح الامضى الفكر النير الوضاء، وهذا واضح في المقطع الاخير: "يا واحة القداح – يا دوه لكل جراح – بدونك اضيع بظيم – حبي لك صاير ديم – انت عبير بدنيتي – بالك تجافيني.