ادب وفن

غابات وطيـــور ومياه / جاسم عاصي

من خلال سِفر الشاعر المغترب باسم فرات الموسوم "مُسافر مُقيم" والذي أحتوى على مذكرات في أعماق الأكوادور، أخترق فيها مجهولية المكان، ليس من باب الاكتشاف فحسب، لكنه ككاتب انتظم وفق منهج الرؤى المقارنة بين ما هو منظّم ضمن سياق الحياة ببكريتها أو تأثير منظومات الحياة المدنية في تشكيلها، وما يحمله من صوّر الحياة الفاقدة صيرورة كهذه في الوطن.
وهي في مجملها لم تكن لتؤسس إلى خطاب انتقادي، وإنما تندرج ضمن رؤى "إنسان، شاعر، مرهف" هذا الثالوث الذي حدد شخصية الكاتب الذي يتداول خصائص المكان الماكث فيه حيناً من الدهر، والمستبدل للأمكنة، تشوفاً لرغبة أسستها مأساة وجوده في الوطن، إبان حروب اجتاحت وجوده ضمن جيل أنهكت وجوده الحرب، وحمّلتهم عبئاً خارج طاقتهم. وما الاغتراب سوى فعل تغيير المكان من أجل الخلاص. غير أن هذا بالنسبة إلى "فرات" كان بمثابة بناء للشخصية الشاعرة والمثقفة. الشخصية التي وظفت معارفها من أجل صياغة شخصيته في البداية، ثم العمل على اكتشاف المجهول من العالم عبر بيئات غامضة بالنسبة إليه. لذا نجد الأسلوب الذي عمل فيه على صياغة يومياته في الأمكنة الجديدة اتصف بالشعرية في مخاطبة الحيوات في المكان، كذلك اعتماد ما يستطيعه انثيال الذهن الشعري لغرض رسم الصورة الجميلة للمكان، وبما يستوجبه الشعر من رؤى. هذا من جهة. ومن جهة أخرى حاول أن يصوغ رؤاه وفق رؤى بكرية، طفولية. إذ كانت تدهشه حيوات الطبيعة من أشجار ونباتات ومصادر مياه وطيور لم ير بعضها إلا من خلال الشاشة العريضة في صالات السينما. فكيف به وهو بمواجهته ؟ كان كثير الحرص على عكس دقة اكتشافه لذلك، ودقة عكس مشاعره الطفولية، التي هي طفولة شاعر يتعامل مع الأشياء عبر لغة نثرية ذات محمولات شعرية رصينة وتلقائية لا تنطوي على عبء من التعقيد. وهذه الخاصية اتسم فيها شعره في دواوينه التي أنتجها في المهجر. لقد طغت كما ذكرنا على يومياته رؤى الشعر ورهافة النفس الإنسانية الاستثنائية في شخصه.
المشاهِد والحس المقارن
ما نقصده من المقارنة ؛ هو حضور صورة أخرى إيجابية أو سلبية التي عليها المكان المغادَر إزاء ما يحتويه المكان المُزار. وهي نوع من أحاسيس الأسف المشوب بالألم. ولعلنا في هذا ــ كما نرى ــ يتوجب وضع الصورتين، لكي نتعرف على خصائص الأمكنة، باعتبار مدخلنا إلى الكتاب، هو مدخل إلى المكان. لكن في هذا السعي تتبدل الصورة التي نتعامل من خلالها بما هو مكان. أي نستل خصائصه من خصائص الظواهر والمَشاهِد والأفعال والمشاعر والأحاسيس، التي هي بمثابة البارومتر الذي يقيس صورة المكان في كلا المتنين في المهجر أوفي الوطن بآن واحد. إنها مقارنة كما سنرى مبنية على أسس التشوف والرغبة التي تخلقها سحرية الأمكنة. وهي تصب في ذات التمني والطموح. أي مكللة بالدافع الوطني، الذي هو أهم الأسس التي يحاول أن يرى فيها مكانه المغادَر هو أن تشمله يد التجميل وليس التخريب المتواصل. والكاتب اعتمد على زياراته التي لا تنقطع عن الوطن، مقابل استمرار سِفره في فيافي العالم ومجاهله، وبُعد مسافاته وعلّوها وغموضها كالجبال والغابات والأنهار والشلالات والكهوف. من هذا أجد أن باب المقارنة ذي توصيفات مقبولة، لأنها هادئة من جهة، وهادفة من جهة أخرى.
ففي توصيف المكان قصد مقارنته بالمكان العراقي، يذهب مذهب من عشق البيئة وسحرها، عبر وصف دقيق لما يراه من طيور ومنابع ماء. يكون الوصف مستنبتا على حس شعري خالص. كأنه ينثر قصيدة مطولة بنثر مركز، يعتمد رؤى الشعر في النظر إلى الأمكنة التي يدخلها. وحين تكون المتشابهات حاضرة بين مكانه الحالي وما اختزنه عن صورة المكان في وطنه. فأنه يعالج ذلك بحميمية وهيبة لا تشوبها المبالغة، بقدر ما تسمها القدسية. فهو يقدس بيت الطفولة وشارعها، عابرة إلى قدسية المدينة "كربلاء" حاضنة ماضيه بكل أشكاله وخصائصه. إذ يوصف ما ورد في ذاكرته من باب المقارنة، منطلقاً من عمارة المكان، الذي وجد فيه مشتركات:
"أنا العربي المشرقي، أتيت من بيئة فيها عمارة "الحوش "فالعمارة هنا لا تختلف عما هو عليه الحال في العراق وسورية، سوى أن في بعض مناطق العراق، ومنها مدينتي كربلاء بالذات، عمل مسؤولوها على مدى العقود الأخيرة في تهديم هذا التراث والعمارة الأصيلة التي تتفق وطبيعة مدن العراق المحاذية لصحراء شاسعة".
بهذا القدر من التذكر، وضعنا أمام موطئ لمحاولته الدائمة في الكتاب، والتي بناها على أسس وضع المتشابهات، ومن ثم وصف المتغيرات السلبية في الوطن، والإيجابية في المكان السياحي. إنه يبحث في هذا عن أصالة المكان وعمقه التاريخي. فالمدن صحيح أنها مصممة على وفق رؤى سابقة، لابد أن تنفتح على متقدم في العمارة الحديثة. غير أن هذا التقدم لا يعني الترقيع أو الإزالة، بقدر ما تعني تقديم الجديد وبقاء القديم ــ ذي الصفة التراثية ــ وهو بمثابة هوية لهذه المدينة أو تلك. إن الكاتب إذ يتذكر العوامل التي حاولت وتحاول محو خصائص المكان، مقابل مدن زارها حافظت على خصائص أمكنتها دون الابتعاد عن سبل التحديث، إنما أراد أن ينبه ولو بشكل غير مباشر إلى جملة القوانين الفوقية التي تتحكم في تصميم المُدن، وعدم ترك الأهواء الشخصية، والمزاج الذي يرمي إلى تشجيع سبل الدعاية الفارغة من المحتوى. والمساهمة باستمرار في فقدان المُدن المعنية خصائصها التراثية، أي هويتها الحضارية والطوبوغرافية.
أما بصدد الطقسية اليومية في حياة الشعوب، أو ما تقيمه في المناسبات على مدار السنة. فأنه يميل إلى طقوس الرقص وفن الموسيقى والكرنفالات التي جل صفتها إشاعة الفرح في نفوس الناس. بينما يذكر عكس ذلك في مدن وطنه، التي لا تعكس سوى الحزن الدائم، والتشوف الضبابي للمستقبل.