ادب وفن

«تانغو».. رموز فوضى القتل / احمد عواد الخزاعي

في لقاء صحفي أجري في ثمانينات القرن الماضي مع الناقد الدكتور جواد علي الطاهر، صنف فيه النقد الادبي الى نوعين "الأول يمثل تسجيل اعجاب وارتياح لمنجز ادبي في مقالة، من دون طرح الاسباب والتحليلات، وهو أشبه بالتحية لذلك الأثر الأدبي، وهو لا يقل اهمية عن غيره من الناحية النقدية.. وأما الثاني، فهو ما يغوص في ثنايا النص الادبي، ويعمل على تحليله وتقييمه وإخضاعه لقواعد مدارس النقد الحديثة".
وتماشيا مع هاتين القاعدتين الرئيستين في النقد الأدبي، سأسلط الضوء في هذه المقالة على منجز ادبي يستحق الإشادة والتقييم وهو المجموعة القصصية "تانغو" للقاصة شهرزاد الربيعي، والتي ضمت ثلاثا وثلاثين قصة قصيرة، وتعد تجربتها الاولى في عالم السرد.
تميزت هذه المجموعة بتمحور معظم ثيماتها حول مسائل فكرية رصينة ذات ابعاد فلسفية "كالحرية وحقوق المرأة"، اختارت لقصصها أبطالا من طراز خاص، يمتلكون وعيا ثقافيا عاليا "استاذ جامعي، شاعر، رسام، كاتب" لتجعلهم جسرا تمرر من خلالهم افكارها ورؤاها حول بعض القضايا والمشاكل المهمة في مجتمعنا الانساني والعراقي بوجه خاص، تماهت في طروحاتها هذه ونظرتها التحليلية للأمور مع القصة العراقية في ستينيات القرن الماضي، والتي تميزت بالبعد الفلسفي لنظرتها الى مشاكل المجتمع، وفق رؤى طوبائية، يتعاطى ابطالها مع محيطهم البيئي بصورة اكثر نضجا وتعقيدا من بقية ابناء مجتمعاتهم، وكان هذا التوجه للقصة العراقية آنذاك واقع تحت تأثير المد الوجودي القادم من الغرب والمحمل بكم كبير من التساؤلات، كما يشير الناقد ياسين النصير في كتابه "القاص والواقع"، إلا إن القاصة شهرزاد الربيعي حاولت الإفلات في بعض محطات مجموعتها القصصية من هذا الإطار المعقد والشائك، والبعيد عن واقعنا الاجتماعي العراقي المعاصر، بكل ما يحمل من مشاكل اجتماعية خطيرة وانثيالات نفسية سيئة على الفرد العراقي، فقد أشارت بصورة مباشرة أو باستخدام الرمز إلى فوضى القتل التي يشهدها بلدنا خلال السنوات القليلة الماضية، كما في قصة "ذاكرة مثقوبة" والتي تحكي قصة أستاذ جامعي عراقي في مادة التاريخ، تعرض إلى محاولة اغتيال نجا منها بعاهة ذهنية جعلته يعيش بقية حياته فاقدا للذاكرة، وكذلك في قصة "أسرار أبي" والتي تعد تتمة لقصة "ذاكرة مثقوبة"، وأما في قصة "أسرار النخيل" فنجد القاصة تضعنا عنوة أمام حالة إنسانية مؤلمة لرجل عجوز يظل لأيام عدة يجوب منزله المحطم وهو يجمع أشلاء أجساد عائلته البريئة التي مزقتها صواريخ الطائرات الأمريكية، غير إن أجمل تصوير للواقع العراقي المعاصر جسدته في قصتها "قاتلو الخيول" والتي استخدمت فيها الرمزية العالية بحرفية جيدة، وذلك بخلقها واقعا افتراضيا طغى على معظم حيثيات القصة، عبر سردها حلم فنان يعشق رسم الخيول وتصويرها مشهد سيرك خيول في مدينة ليس لها وجود على ارض الواقع، لكنها أشارت إليها من بعيد على إنها تشبه مدينة هذا الفنان، الذي ربما يكون القاصة نفسها، وفي خضم هذا العرض تتعرض الخيول إلى القتل والتعذيب على يد مروضيها، مما يثير هلع وخوف الجمهور الذين يغادرون السيرك هاربين وآثار الصدمة بادية عليهم من هول ما رأوه، لينتهي الحلم باستفاقة هذا الفنان على صوت دوي انفجار كبير، ليهرع متفقدا لوحاته المعلقة على جدران مرسمه، فيجد إن لوحة الخيول هي الوحيدة التي سقطت على الأرض نتيجة هذا الانفجار.
قصة "قاتلو الخيول" هي واحدة من عدة قصص كانت القاصة حاضرة فيها بقوة كفنانة تشكيلية "رسامة"، وهذا يبدو واضحا لكل من يطلع على مجموعتها القصصية والتي ضمت بين طياتها بعضا من لوحاتها، فاستخدمت الفنان بحسه المرهف ومخيلته الواسعة، واللوحة بكل ما تحمل من مدلولات مادية وحسية مؤثرة على المتلقي ،وسيلة للتعبير عن بعض القضايا المهمة في المجتمع، كما في قصص "الواشي، نقمة النسيان، زنزانة المشاعر، الحياة من وجهة نظر حمامة، أرواح هائمة، اللا منتمي".
كما إن تطلعات المرأة العربية وهمومها وحلمها بحرية مازالت بعيدة المنال في مجتمعاتنا الذكورية، فرضت نفسها على السياق العام للمجموعة القصصية، برؤيتين مختلفتين، الأولى لا تخلو من الندية والتحدي للطرف الآخر "الرجل"، كما في قصة "تانغو" التي حملت المجموعة اسمها، والثانية بيان حجم المظلومية الواقعة على المرأة في مجتمعاتنا الشرقية، كما في قصة "حديث في الحديقة الخلفية" حيث تحكي على لسان البطلة "في مجتمعنا على المرأة أن تعمل كل ما يجب عليها أن تعمله، وكل ما لا يجب عليها عمله، برضا ومن دون اعتراض أو حتى دعم أو تشجيع، لتكون دائما على هامش الأشياء، وخلف الصورة، انه مجتمع ذكوري متخلف".
في المجموعة القصصية "تانغو"، اختارت القاصة شهرزاد الربيعي أسلوبا سرديا متنوعا، قد يعده البعض خارجا عن ما هو مألوف في القصة القصيرة، وتمردا على سياقها العام، الذي يتطلب فكرة مركزة مع حوارات سردية مقتضبة وحدث هرمي يتصاعد إلى الذروة ثم ينتهي بالحل، لكن القاصة طرحت لنا في مجموعتها هذه أسلوبا سرديا ثلاثي الأبعاد، ففي قصص "ذلك البطل، أنا ونفسي وأنا أيضا، أرواح هائمة، غرباء"، نجد إن القاصة قد نحت منحى مسرحيا في البناء العام لهذه القصص من خلال إتباعها أسلوبا سرديا مسرحيا عبر حوارات متبادلة بين أبطالها أو تيار وعي باطني "منلوج داخلي" يعيشه البطل داخل النص ..ثم نجد إن الأسلوب قد تحول إلى شيء مغاير تماما في قصص أخرى، ويبدو لنا النص وكأنه اقتطع من رواية، وذلك بسبب تشعب الأحداث وتعدد الشخوص الذين استعانت بهم القاصة للفت انتباه القارئ نحو الحدث الرئيس للقصة، أو غياب سببية الحدث، كما في قصص "العائلة، الميراث المشؤوم، اللا منتمي" .. إلا أن البعد الثالث لغة وأسلوبا هو ما وشح المجموعة القصصية وأضفى عليها حسا إبداعيا متناسقا وجميلا، عبر لغة حداثوية اقتربت من القصيدة النثرية في كثير من محطاتها، وأسلوبا سرديا متناسقا متزن الإيقاع، و"مشاكسات لفظية" إن صح التعبير، تميزت بها بعض عناوين قصص هذه المجموعة، والتي بدت خارجة عن المألوف، وهذا التنوع بكل أبعاده لم يمنحنا سوى منجز أدبي جميل يستحق الثناء، وخطوة واثقة في عالم السرد ننتظر من القاصة شهرزاد الربيعي خطوات أخرى أكثر وثوقا وابداعا.