ادب وفن

بورخس الفيلسوف الشاعر.. مفتش الدواجن والأرانب / قيس مجيد المولى

انصب القدر الأكبر من قبل النقاد للتعريف بخورخي لويس بورخيس بما قدمهُ في مجالات النقدِ والقصةِ وما كتبه للمسرحِ، وكذلك جهده المعروف في الترجمةِ من الإنجليزيةِ إلى الإسبانيةِ، وتأملاته الفلسفيةِ الواسعةِ ، وقد ساعد هذا التجوال الموّسع تمكنه من معرفةِ اللغة الإسبانيةِ والإنكليزيةِ وإجادته اللغتين الفرنسيةِ والألمانية، ولا غريب بأن صيته قد ذاع بعد تقاسمهِ جائزة فورمنتر مناصفة مع صموئيل بيكيت، ولا غرابةً بعد ذلك أن تُترجم جل أعماله إلى اللغة الإنكليزية.
وقد كان لما وضعه بورخيس من أسئلةٍ وتنظيراتٍ في الحقل الفلسفي الأثر على رؤيته الشعر، بعد أن حصلت الانعطافة الحاسمة في حياتهِ جراء فقدانهِ بصره، الأمر الذي تَسبّبَ في فقدانه قدرة التركيز على ما يكتبه من مقالات طويلة زاخرة بالحوادث والتأملات، لذلك فإن أسئلتَهُ وتنظيراته باتت وعاءَهُ الشعري الذي صهر فيه هذه المفاهيم، مع إنتاجهِ لغة شعرية جسدت عمقهُ الفلسفي الجمالي، وضمن هذا المفهوم فإنهُ لا يرى أي حدودٍ فاصلةٍ بين المطالب الكونيةِ التي تلازم المبدع في مكوثهِ وحركتهِ، وفي مسميات تلك الأشياء التي يستنبط لها في كل دورة شعريةٍ في مخيلته مسميات جديدة لاستخدام ما أسماه بـ "الرموز المشتركة"، والحاجة إلى الكلمات التي لا تنتهي. ومن هنا لم ير ضرورة في أن تسعى موحياته الشعرية إلى التذكر كي تعيد لشعريته خزينه الصامت، فالشعر تجليات تخلق نفسها في لحظة الزّهو، اللحظة المفترضة المتوقعة بعيداً عن التصميم الذهني وشد الأحاسيس والرؤى، فالشعر لدى بورخيس ليس مراوغة المجهول، أو معاينة الحاضر وإنما معالجة الواقع عبر ماضيه، ورسم وقبول نتائجه، وهي معالجة تمرُ عبر شحنات الألم الممتع، التي تحملها المفردة المناسبة غير الخاضعة لزمن محدد ومكان محدد، من دون تقصد إهمال هذين البُعدَين. إنه الشكل الشعري الذي استخلصه بورخيس من فلسفتهِ :-
إذاً سأكونُ غداً الموت واللغز
أنا الذي أسيرُ مبتهجاً
لن يكون لي قبل ولا بعد مقيماً
أبدياً في مدار سحري ومنعزل
إنهُ شرط التزهد لا أظن إني
أهلٌ للجحيم ولا موعود بالمجد
من يدري أي متاهةٍ تائهةٍ. أي حرقٍ
أعمى من البياض سيُدهشُ قدري
حين تُنبئني تجربةُ الموت الغريبةُ
عن نهايةِ المغامرة .
كان بورخيس وعلاوة على اطلاعه على شتى أنواع المعارف والاتجاهات الأدبية، فقد قرأ في إسبانيا الشاعر الأمريكي والت ويتمان، ووجد فيه ضالته الشعرية المفقودة، وقد أعجب به أيما إعجاب وكان قبل ذلك هيّأ قاعدته الفكرية وهو في سن التاسعة عشر عاماً، حين توقف معجبا بشوبنهاور ونيتشه والتعبيرية الألمانية. ذلك التزاوج بين الشعر والفلسفة ضمنّه الكتاب الشعري الذي أصدره والمعنون بـ "القمر يواجهه" وخلال منتصف الأربعينيات جمع نتاجه الشعري في مجموعته "قصائد" وقد ضمت أيضاً مجموعته الشعرية الأولى "حماس في بوينس أيرس".
خلال مراحل حياته ساهم بورخيس مساهمة نشطة في العديد من الصحف الأدبية ، وعمل مستشاراً أدبياً هنا وهناك، لكن الانعطافة الوظيفية في حياته قد حدثت حين طرد من عمله في مكتبة العاصمة الأرجنتينية على أثر موقفٍ سياسي، وعينَ مفتشاً للدواجن والأرانب في سوق المدينة، وبين قبولهِ حياتهِ الشخصية ، وبين الأنا الغائبة والأنا الحاضرة فقد مال شعرياً إلى النظر إلى ما بعد البعد لكشف طاقاته الجمالية المخبوءة بين طيات فلسفته، وبقراءةِ قصيدته "إلى الابن" يتكشف العمق الذي أشرنا إليه :-
أنا لستُ من ينجبك , إنهم الموتى
إنهُ أبي وأبوه سلسلةٌ طويلةٌ من الآباء
تنطلقُ من آدمَ من الندم الأخوي
من الصباحات الأولى التي سيخضع لها الإنسان
هذا الحشد الذي أنجبك يا بُني
أشعرُ بهِ بقربي
إنه نحنُ جميعاً، إنهُ أسلافي وأنتَ وأطفالكَ وأطفال آدم الأحمر
إنها إرادة الطقس الأبوي، الأبديةُ هي لأشياء الزمن الذي
يسرعُ ويعبر ويتحرك
تجاوزَ بورخيس مفهومهَ بأن الشاعرَ يكتبُ ما يستطع، فقد ألمّ بوظيفة اللغة الشعرية ومداخلها السّرية وفتح أبواباً على رؤيته التي كونتها دراساته المعمقة بدءاً من الفلسفة إلى تاريخ السلالات، ورغم انفصاله شعريا عنهما إلا أن صبغة السوداوية والألم التي تركتها قراءتهُ بقيت تؤشر الى وحشته الشعريةِ في العديد من قصائده، وكأن بورخيس يريد من ذلك تحويل نجاحاته إلى هزيمةٍ روحيةً من خلالها يجد المتعةَ التي طالما تحدثَ عنها في العديد من لقاءاتهِ الأدبية، ولا ضير في أن يحيل منجزه الشعري إلى دهليز محكم الإغلاق كي يتسنى له وببصيرةٍ نفذت الى الاعماق ملامسة ذلك اللغز المحير لأسئلةٍ يرد عليها بأجوبةٍ استفهامية ، لينشأ التبادل الكيفي وغير المنظم ضمن طاقية الإخفاء الزمكانية فيمد يديه ويعمق جراحه على أوسعِ مدى :
الدرب القديم أصبح محظوراً
الباب. الرقم. الجرس
ماذا تبقى في نفسي المهزومة
طعم فردوس مفقود
الأيام الغامضة والذاكرة الملونة
وذلك اللغز قبل الموت ، الموت
لا أريد سواه.
أريدهُ كاملا
مطلقا
على قطعة الرخام
الاكتشاف هنا في شعر بورخيس بأنهُ رسم مشهدا ضَمنَ فيهِ التكثيف إزاء مرويات محددة بإعادة تشتيت فواصلها الزمنية والإطباق على نكهة جمال الجملة الشعرية بعد الإخفاء القصدي لعملية التحقق.