ادب وفن

النحات الإيطالي البرتو بوري: رحلة المادة من الحاوية إلى المتحف / محمد العامري

لم يتوقف الخلق الإنساني عند حدود المواد النبيلة في التعبير الفني عن موضوعاته وهواجسه، فقد اختبر الكائن الإنساني طرائق متعددة لتقديم الإدهاش في مشهدية العمل الفني، كجزء من سموه نحو تحققات الحلم الأبعد، وجذْب الجمهور وإثارة التساؤلات حول المادة والموضوع معا، فكانت هناك محاولات جادة للخروج من الاستوديو والإضاءة الصناعية، فقد خرج الفنانون إلى الطبيعة لاختبار النور الطبيعي واجتراح طبيعة ذات مفهوم فلسفي وإنساني تعبر عن مخياله الإنساني المطلق، المخيال الذي لا تحده حدود في البدايات الأولى للثورة على الموروث الفني، وصولا إلى الثورة على طبيعة المادة المستخدمة في الفن، فكانت الدادائية والتعبيرية والانطباعية والإنستليشن والبيرفورمانس والمواد البائدة التي أكسبها الفنان تاريخا جديدا من الحاوية والمهملات، إلى أفخم صالات المتاحف، ومن أهم هؤلاء الإسباني أنتونيو تابييس وجيوفاني أنسيلمو، والغييرو بواتي، ولوتشيانو فابرو، وجانيس كونيليس، وماريو ميرز، وماريسا ميرز، وجوليو باوليني، وبينو باسكالي، وجوزيبي بينوني،، وإميليو بريني، وجيلبرتو زوريو، وخير مثال على رواد حركة الفن المتقشف "سُميت الفن المتقشف لطبيعة المواد الرخيصة المستخدمة في الإنتاج الفني" أمثال ألبيرتو بوري، وبييرو مانزوني، ولوسيو فونتان، وكذلك فنانو حركة سباتيليزم الفنية.
ففضاء المادة في التعبير الفني جاء عبر سياقات احتجاجية على قسوة المجتمع الصناعي وتداعياته على الإنسان المسحوق، ومن أهم التمظهرات الاحتجاجية الإجرائية ما قام به تشيلاينت برعايته معرض فضاء في تشرين الأول عام 1967 واتْبع المعرض بكتاب "تاريخ رواد الفن المتقشف"، فقد أشار في هذا الكتاب إلى أفكار ثورية على المادة والعمل التقليدي في مواجهة السياسة التجارية في الفنون.
البرتو بوري من الفنانين الرواد في هذا المجال لكون تلك التوجهات تنسجم مع فكرة وطبيعة وجوده في حقب الحرب واستباحة الإنسان. بوري المولود في سيتا دي كاستيلو عام 1915 طبيب إيطالي وعضو في الحزب الفاشي، عاش تجربة مؤلمة لكونه أسير حرب في المعسكر الأمريكي، وأعتقد أن تلك الظروف القاسية والمضطربة جعلت منه فنانا يتجاوز المادة النبيلة ليستخدم ما هو متاح له من مهملات رخيصة في المعسكرات ليحولها إلى فضاءات إبداعية جديدة، تعكس طبيعة العنف والاضطراب الذي تعرض له، إذ تعكس أعماله طبيعة الماضي المؤلم وما خلفته الحرب من تفتيت للقيم الإنسانية وتداعيات في النفس البشرية.
صُنف بوري ضمن مجموعة الفنانين المعتقلين بعيدا عن مهنته الأساسية الطب الذي ابتعد عنه وانتصر للتعبير الفني عبر استخداماته مواد كثيرة منها البلاستيك وأكياس الخيش وأكسيد الزنك، ومزق الخيام والرمل، كل تلك المواد صاغها عبر الحرق والثقوب والكولاج وأعطاها قيما جمالية قاسية عبرت عن مفاهيم جديدة في طبيعة الخطاب الفني والمادة على حد سواء. فهو يعمل على مفاهيم اللوحة الكارثية التي تعتبر جزءا مقتطعا من الكوارث والدمار الذي خلفته الحروب، فقد صنع من البؤس مساحة لتحبير مادة إنسانية تدين الماضي الأسود في حياة الحروب وتجلياتها الاقتصادية والنفسية والاجتماعية.
أتاحت له فرصة سفره إلى باريس عام 1949 الالتقاء بمجموعة من الفنانين، بعضهم صنف من الفنانين المرفوضين، أمثال بوكلي وخوان ميرو وجان أرب، وهذا اللقاء أثار فضول بوري ليقدم مجموعة من الأعمال مستخدما فيها عناصر جديدة تنتمي إلى مفاهيم الرقش الجداري "النقوش الجدارية"، فكان لمعرفته طبيعة المواد الكيماوية وتفاعلاتها الأثر الأكبر في خلق مجموعة من السطوح التصويرية ذات البعد الزمني "سطوح تعكس فعل الزمن"، أي سطوح تحيلك إلى طبيعة الزمن وتآكلات المادة في الجدار، وكانت تلك الأعمال أقرب إلى مقطعات من جدران تهدمت في الحرب وصولا إلى آثار الحرق والنار والثقوب في تلك الجدران التي تمظهرت في طبيعة لوحاته.
فكان يهدف في كل ذلك إلى خلق تأثير قوي على المشاهد، من خلال تفاعلات المواد المختلفة على سطوح لوحاته، والغريب أنه استطاع أن يجد رابطا مهما بين طبائع المواد المختلفة كالحديد والقماش والورق والصمغ وتشققات الأخشاب، إنه الصانع الأمهر الذي يخلق من المهملات مادة ذات رسالة إنسانية قوية. فلم يكتف بطبيعة السطوح، بل استفاد من طبيعة النحت الريليفي البارز والغائر ليحقق دعوة لمشاهديه في لمس الأعمال وتحسسها والتعايش معها، كجزء عضوي من تاريخ الإنسان.
ففي الفترة بين عام 1953-1954، حصل بوري على لفت الانتباه في الولايات المتحدة حين أدرجت بعض أعماله في متحف غونهام، حيث قدم له أول معرض استعادي يستعرض مسيرته الفنية وصولا إلى طبيعة الأفكار التي يطرحها بوري في متحف الفنون في هيوسن، وتوالت العروض عليه لإقامة أكثر من احتفالية فنية في مواقع أخرى، أهمها متحف سولومون وكانت معظم الاحتفاليات تحت عنوان "صدمة الرسم" كعنوان ينسجم مع طبيعة أفكار هذا الفنان، لقد نال مجموعة من الاعترافات المهمة على ما أنجزه في تاريخ الفن، وكان أهمها وسام الاستحقاق للجمهورية الإيطالية عام 1994.
لم تزل حياة البرتو بوري مادة مهمة للبحث في تاريخ هذا الفنان الذي تجاوز تقليدية اللوحة السائدة "اللوحة المسندية"، والذي استطاع أن يصنع من البؤس الإنساني مادة جمالية ذات بعد فلسفي يعبر فيها وبشكل صادم عن رفضه الحروب والانتصار للحياة بوصفها القوة الأكبر.