ادب وفن

"أرض الجنة"..تنوع العنف وتأجيل النهاية / سالم محسن

الميادين التي نقتحمها بعفوية المغامرة وحب المعرفة، وسبر غور الماضي للاتصال بالشعوب ومعرفة حركتها ونمو مجتمعاتها؛ تلك الشعوب البائدة التي كانت تتطلع إلى التواصل والتفاهم واثبات إنسانية ما وذكاء لم يزل طريا راجفا ينوء تحت مظلة التوجس.. ينوس من الخوف. كل ذلك هو الدفق الطفولي داخلنا.."، هذا مقتبس من سطور على الغلاف الأخير للرواية جاءت كخلاصة لوضع القارئ في فكرة أعم واشمل لما سوف يقدمه الكاتب من حوادث حقيقية وخيالية.
رواية "أرض الجنة"، سيناريو يعتمد على نقل المتلقي في حركة مشهدية، من مشهد الى آخر حيث يكون الربط ما بين المشهد القبل والمشهد البعد في علاقة مبررة فنيا وفكريا، ولكي نتواصل مع الكاتب نحتاج الى قراءة مركبة تجمع ما بين الماضي القديم والحاضر، مع دمج هذين الزمنين بما يحملان من علامات ودلالات، في قراءة واحدة بمرجعية إنسانية من دون إغفال غاية الكاتب في كشف أساليب علامات التوتر وتشخيصه مع مقارباته التاريخية. السومريون ثم الاكديون وتحول الإله إنليل من باعث الهواء الى اله طاغية على يد سرجون الاكدي. تنتقل مضامين هذا الصراع الى منطقة في أقصى جنوب العراق وهو قضاء "القرنة" التابع لمحافظة البصرة، من خلال البعثة الاثارية النرويجية المكونة من البروفيسور ثور هايردال مع باقي المساعدين والفنيين، وكان هدف البعثة هو الإبحار عبر قارب مصنوع من القصب، كما لدى السومريين في العراق القديم، وإثناء الشروع في صناعة هذا القارب "قارب دجلة" من خلال مساعدة أهالي القضاء وبتوجيه من شيخ القبيلة، وفي ظل وضع سياسي ينذر بالمخاطر "فترة الجبهة الوطنية" تبرز من خلال مشاهد الشخصيات الفتاة "شذرة" المجنونة كشخصية معادلة لابنة رئيس كهنة معبد إنليل في مملكة دلمون "نينهورساغ دمغال نونا"، ومن خلال سير الاحداث و أثناء الإعداد لرحلة القارب، تتجلى معان في السلوك والتفكير ، وهذا بالطبع مرده الى انفتاح موضوع الرواية على ثيمات غاية في الأهمية العلمية والبحثية ،مما جعل المشهد الواحد ممتلئا ومشبعا بالأسماء والأمكنة والتوقعات، وربطها ضمن سياق استعاري للأحداث ما بين الأسطورة والواقعة التاريخية, وفي حادثة اختفاء العالم "ديتلف" مع الفتاة شذرة يشدنا الكاتب، حيث هو الوحيد من يحتكر تفاصيل الأحداث، ونحن كقراء ليس علينا إلا أن نصدق كل ما نقرأه بعد طرح الأسئلة، وتكون تأكيدات الكاتب من خلال الأحداث السياسية بشكل واضح، في ظهور شخصية الطالب الجامعي "جاسم" الشيوعي على مشاهد السيناريو، وحملة الاعتقالات من قبل سلطة البعث الصدامي آنذاك، وهربه مع ملا القضاء الى بغداد لمساعدته في الهرب الى كردستان مع صديقه "عدنان" بعد التضييق على رفاقهم في كل مكان، وعن طريق "الملا حمود" في خانقين إمام جامع خانقين وعند وصول جاسم وعدنان أراضي كردستان والتحاقهما بحركة الأنصار والاعتناء بهما من قبل رفيقتيهما ليلى، حيث يسلط الضوء في مشاهد وحوارات على شخصية المناضلة ليلى الأنصارية وشجاعتها النادرة في مساعدة الثوار البكاكا وزواجها من جاسم بعد فترة من الزمن ،ومن الواضح ان كاتب السيناريو لديه من الخواص الفنية التي تسمح له بتقديم وجهة نظره كتعليق على الإحداث، كما هو حاصل في المسرح خاصةً إذا كان موضوع العمل يقارن بثنائية زمنية ما بين العراق القديم والجديد ،ان الشخصيات التي أدخلها الكاتب في متن السيناريو الروائي تمثل أنموذجا في الزمان والمكان الذي يتناوله، وعلى سبيل المثال نجد شخصية ليلى الأنصارية أنموذجا للمرأة الشيوعية المطاردة من قبل النظام الصدامي آنذاك ،والتي التحقت بحركة الأنصار، حيث كانت تقوم بقديم مجموعة من المهام النضالية لرفيقاتها ورفاقها في حركة الأنصار في شمال العراق وتدربهم على السلاح وهي كذلك ماهرة في الطبخ، كما تتناوب الرفيقات والرفاق حراسة المكان، ويتعدى دورها حدود ذلك، في تواصلها مع الحركة الكردية التركية البكاكا المتواجدين في شمال العراق، علما بان هذا يجلب لها مخاطر إضافية، وان المشترك في الخلاص من كلا النظامين في العراق وتركيا تدعو إلى ان تتوحد الحركة الثورية في كلا البلديين، خاصة إذا كان المرجع لهما هو الفكر الماركسي.
الرواية تزخر بمشاهد مشوقة وممتعة ،تثير الأسئلة عبر مرورها بشخصيات لها وقع في خضم الإحداث وهي موزعة ما بين معاناة رحلة القارب دجلة والتحاق جاسم وعدنان بحركة الأنصار، ويستمر سرد الإحداث لحملة اعتقالات الطلبة في الجامعة البصرة، وهرب الطلاب من السياج، وكذلك العلاقة الشاذة مع رجل المخابرات "الملا" عند مبيت جاسم معه بفندق في الكاظمية وإلقاء القبض على عائلة "الملا حمود" لمساعدة عدنان وجاسم في الهرب الى كردستان ،مع إشارة الثوب الزهري لشذرة في بداية و نهاية مشاهد الرواية، ثم نجد الحدث الأبرز حين يقوم "هايردال" بحرق القارب امام شواطئ جيبوتي لأسباب عدم السماح لهم بالمرور نتيجة العمليات العسكرية والحرب الدائرة هناك. أما عن جاسم الطالب الجامعي الشيوعي فيستشهد هو وزوجته ليلى وابنهما محمد بمادة الغازات السامة، أما شذرة التي هربت مع "دتليف" الى ألمانيا عن طريق إيران فتعطي للرواية الأمل بعودة الحياة الى مدينتها "القرنة"، إن هذه النهاية المفتوحة قد أعطت تلميحات وإشارات إلى حتمية عودة الروح السومرية وأن هذه الدعوة لا تتناقض مع صيرورة عودة الحياة إلى الشعوب الزاخرة بأسباب البقاء والانبعاث..