ادب وفن

نصوص عبد عون الروضان أنموذجاً / جاسم عاصي

في محاولات القص عند عبد عون الروضان؛ تبرز أهمية الأسئلة الوجودية التي تتمحوّر في ظواهر إنسانية، كرّست سؤالها في بؤرة واحدة، يتلخص في محاولة الفكاك من سلطة المضطَهِد. ذلك لأن معظم نماذجه في النصوص هم متمردون على طبيعة الواقع.
وقد انحصر وجودهم في بقعة الأرض في ريف الجنوب، أوهم من أولئك المتمردين على الاحتلال الإسرائيلي، أو من النماذج الذين أفرزتهم الحروب العربية الخائبة. كما هم في قصة "أحزان حنفي في الكيلو 101" التي امتازت كغيرها ببناء نفسي دقيق وعميق، كشف عن طبيعة الشخصية التي تحرّكها المشاعر الوطنية قبل كل اشكاليات الوجود السياسي. وبهذا حازت نماذجه على قدرة مقنعة وهي تتصدى لعوامل الاضطهاد والطرد ومصادرة الحق الشرعي في الحياة. ونستطيع أن نؤكد على أن معظم شخصياته هم من شغيلة اليد في الأرض، وممن ارتبطوا بالعمل برأسمال قوة الجسد. وبهذا شعت في ممارساتهم صورة القناعة الذاتية والموضوعية. الذاتية في استمرار اقدامهم على التمرد والانعتاق، وموضوعياً أوجدت قوة استطاعت من خلالها أن تحقق موقفها الذي ولّد قناعة موضوعية لدى القاري من خلال النص. وقد تم هذا من خلال تنضيد النصوص عبر لغة بسيطة، لا مبالغة فيها. سواء كان هذا في لغة السرد أو الوصف، أو الحوار، لاسيّما حين تكون الشخصية في كامل وعيها الطبقي أو الفئوي، تحاول ان تفرز أفكارها التي هي وسائل للتعبير عن الموقف في الوجود. نماذجه ذات وعي عال في بنية تسلسل أفكارها. فهي ذات بنية ريفية فكرياً اعتمدت لغة مباشرة، معادلها الموضوعي، كوّنها استطاعت أن تعكس موقفها بكل روية، بالرغم من شدة حدة الموقف، وبلوغه حد المصيرية في الخلاص أو إنهاء وجودها على أيدي ووسائل الإقطاع.
من هذه القراءة لفضاءات قصصه، نجده أكثر قيمة فنية في معالجة وجود شخصياته، محافظاً على موقعهم الفئوي، معتدلاً في عكس تصديهم للمضطَهِد عبر موقف التمرد على قوانينه في قصص "المدارات" وهي نصوص شقت طريقها من خلال العنوان، الذي أكد على الجمع في توصيف أجواء حياة نماذجه، فبدلا من أن يشمل المدار، أي الدوران في المجال شخصاً واحد في قصة، منحه توصيفاً لكل من احتوته النصوص. لذا فقد وضعنا بمواجهة مجموعة مدارات، أي مجموعة مواقف، تفرز موضوعياً حياة مختلفة، لكنها تصب في ذات الموقف في الحياة. وهي قصص التزمت من خلال توصيف العناوين الفرعية بمبدأ التعبير الإشاري عن المعنى من الثريا أو العتبة الأولى. وقد كان اهتمامه بظواهر بيئة الريف أكثر، وبالطقسية الشعبية وما يفرزه العقل الجمعي، للتعبير عن المعتقد والهيبة في الوجود البسيط والمحكوم بإرادة ذاتية خفية تُضاف إلى إرادة الآخر في التحكم بالمصائر. فالأولى أفرزت التمرد، والثانية الطرد من المجال "الأرض" وبهذا أصبحت الشخصية كما وصفها العنوان بالوجود في المدار اللانهائي في الوجود، ذلك لأن الشخصية تجد نفسها ضائعة في المدينة، بالرغم من تأقلمها مع موجوداتها كالعمل بالأجر والانسلاخ ضمن شريحة مضطَهَدة. ولعل الأشجار وما حازت عليه من تأثير على وجود الإنسان من خلال سحرية وجودها الأسطوري، الذي كرّسته الطقوس التي بنت مفاهيمها عبر التكرار، حتى غدت بعض الأشجار ذات مجال في التقديس كما هي شجرة السِدر مثلاً. وشجرة الرمّان في هذه القصص كان لها حضور يقترب من المفهوم الأسطوري. ذلك لأن وجودها في مجال الشخصيات، أكد على أصالة هذه الشجرة، ومن قدرتها على العطاء. وكان وجودها في البيت وزرعها من قبل الأبن دال على نوع من التفوّق الذاتي في تحقيق الوجود. فالشجرة هنا دال لمدلول وجودي خالص، إزاء موقف الأب الذي يصّر على أن الشجرة ذكراً، وليس أنثى، فهي لا تُعطي ثمراً. وهنا تتجسد أسطورة الأنثى في العطاء، أو الاعتراف بوجودها كمنتجة في الحياة. هذان الاصراران ولّدا صراعاً طويلا بين الأب والابن "كنت أتحدث مع أبي بشأنها، وأحاول أن أثبت له بالدليل القاطع أنها شجرة خصبة مثل امرأة ناضجة تماماً، لكنه يضحك بثقة" هذه الحالة تلازمهما وهما في صراع دائم طيلة سيرة الشجرة. فالابن موقن بأنثوية الشجرة، والأب بذكوريتها. بمعنى أن فعل الابن سيذهب هباء "لكني ذات صباح داهمني الحزن فجأة حين رأيت بضعة أزهار راقدة على الأرض. حملتها بحنو. نظرت إليها ثم شعرت بأبي يقف خلفي وهو يضحك، ويذكّرّني بالأزهار الكاذبة والحمل الكاذب" وهذا ارتبط بين صراع جيلين، الأول يحافظ على قيّمه، والآخر يحاول الاضافة بتشوف جديد. لذا فالابن يُقرن الأشياء والظواهر بما هو متوفر في مجاله. فحين رأى الأزهار الذابلة ساقطة على الأرض، والتي نعتها والده بالحمل الكذب كان قد تذكر القرين، "تذكرت جارتنا البدينة أم غائب التي حملت وانتفخ بطنها"، لكن حملها طال ولم تلد أبداً. لكن شجرة الرمان قد قاومت بمثل ما قاوم الابن لإثبات امكانية عطاء الشجرة للثمار، "كانت تعرف الحساب أحسن مني، حتى أنها تذكرت لي أرقاماً لم أكن أعرفها. . لكنني أذكر أن أباه مات بعد أن طرحت شجرة الرمّان ثماراً حقيقية. كنت تنتظر أن تسقط، لكنها كانت تقاوم، حتى نضجت وصارت الشجرة الأم تنوء بحملها الكبير، قطفت الرمّان. . فوضعته في إناء كبير، ثم أخذ واحدة وضعها في صحن، حتى أنها تدحرجت بعيداً. .... سمعت ارتطام السكين بالصحن وسال الماء الأحمر مندلقاً في الصحن وقد شكّل بِركاً غامقة اللوّن صغيرة، وبدت حبّات الرمان كبيرة مغرية مترعة بالماء"
وقد حفلت القصة بمجموعة طقوس، بنت معتقدها على التكرار، حتى غدت معتقداً يؤخذ به كما في طقس النساء في المناطق الشعبية "كانت النسوة يقتعدن عتبات البيوت، سوداوات بشكل مطلق" وهنا يبدو الوصف محترزاً، لأنه آثر أن يكون الوصف أكثر دقة في المحافظة على هيبة النساء وهنَّ يؤديّن الطقس، من خلال وصفهن بـ "سواداوات" أي ملتفات بالعباءات أمام المارّة. كذلك التوفر على جملة طقوس متعارف عليها في البيئات الشعبية، نذكر منها كيفية المحافظة على الشيء عبر أداء طقس يُليق به، ويؤدي إلى ديموته "ثم بدأت الأزهار تتساقط الواحدة تلو الأخرى، رغم أني شويت تحت شجرتي قِطعاً كبيرة من الكبد وتركتها تشيع برائحة الشواء كما أوصاني جارنا خضير البستاني".
إن كفاح الإنسان في الريف مرير، وهو بين صراع كتعدد المصادر، فمنه الذاتي والآخر الموضوعي كما ذكرنا. لذا نجده يحاول ذهنياً إيصال ضفتي النهر، ليحقق تواصل الحياة في قصة "الجسر" وكما هو معروف أن القص تناول مثل هذه الثيمة المهمة، سواء في تخريب الجسور الموصلة بفعل الحروب، أو محاول إدامة صلة الضفتين لتتواصل الحياة من جديد "قال في نفسه : لم يبق إلا القليل حتى تتصل الضفتان ويكتمل الجسر".
ونموذجه "سعيد عطوان" الذي يتكرر وجوده في بعض النصوص، كان مثالاً للمهاجر من الريف إلى المدينة. لكنه في كل نص ــ كما رأينا ــ تتجدد المواجهات بينه وبين حيوات المُدن وظواهرها القامعة لوجوده. وجرّاء هذا نشأ نوع من الصراع المربك لوجوده "هل كان سعيد عطوان طويلاً ؟ هو نفسه لا يعرف ذلك، وحين حاول أن يتذكر أين هو الآن، كان كل شيء يختفي"، هذا المفتتح دال على الضياع حيث تترى مشاهد المدينة بغرابة له"، وفي مكان آخر ذكر:"انها هي الأخرى تعيش المرحلة نفسها.. إننا جميعاً نعيش هذه المرحلة منذ اللحظة الأولى من الولادة. . فولادتنا تعني الموت"، وفي هذا فلسفة تُطرح ببساطة، لكنها تُسفر عن تجربة عميقة، اكتسبها "سعيد" من حياته المليئة بعناصر البلاغة في بيئة الريف. لذا نجده أكثر تعلقاً بماضيه، متشوقاً إليه، مؤنباً نفسه على اختياره المدينة منفاه "بربك يا سعيد عطوان، أيها الرجل الذي التهمته المدينة، هل استطعت أن تخلق ذلك الجو القديم، هل كان للخبز نفس الطعم ونفس النكهة. هل انقطع حنينك إلى ذلك التنور".
وعمد إلى عكس مشاعره عن المكان بروح مضطربة، إلى أن عمد السارد إلى الفانتازيا. وهي جزء من التصوّرات المريضة الناتجة عن حياة غير مستقرة "سمع وقع أقدام ثقيلة وهي تهروّل، وصوت مفتاح، ثم رأى رأساً يطل. كان رأساً عارياً من الشعر. بلمحة بصر كان الرأس قد اختفى وظلت الرقبة، ظهرت لها عين واحدة في الوسط وانفتح لها فم قان أخذ يرطن بلغة لا يفهمها"، وهو نوع من التشوّش والارتباك.
إن قصص المجموعة، تكاد تشترك في ثيمة الطرد عن المجال التي عبرت عنها عتبة العنوان "المدارات" ورسمتها ريشة الفنان في تجسيده لخطوات العابر عن مجاله في لوحتين تدلان على المغادرة. فالذي يبدو في المجالين كونهما محفوفين بالدلالات اللوّنية "الأصفر والأحمر الفاتح ذي البقع الداكنة. وهي مقاييس للأمكنة المجتازة. غير أن المنتظر من الأمكنة التي سوف تأوي الإنسان قد انطبعت بالأسود، كما لو أنها سماء داكنة الغيوم. تنذر بمطر لا تُعرف طبيعته".
"الروضان" يحاول في نصوصه أن يغيّر من البنية الشكلية للكتابة، مستفيداً من الأجناس الأخرى كالقطع والسيناريو ,المونولوج الداخلي، وإلى غير هذا في بناء النص. وبذلك خرج عن دائرة التكرار في البناء والسرد.