ادب وفن

ترجمة محاكمة كافكا للدكتور رياض احمد طه / خليل مزهر الغالبي

صدرت عن "بيت الكتاب السومري- بغداد"، رواية "المحاكمة" للروائي العالمي – فرانز كافكا – ترجمة الدكتور الطبيب رياض احمد طه، عن النسخة الاصلية المكتوبة باللغة الالمانية عام 1925عن طريق "مخطوطات صديقة ماكس برود" واعادة طبعتها عام 2004عن دار "Anaconda" في مدينة كولونيا الالمانية، وقد دعا المترجم في اشارة مقدمته إلى اهمية إعادة قراءة روايات هذا الروائي لتفيدنا في سبر اغوار الحاضر والعمل على ارساء العدالة في الحياة، ولكننا نرى وفق عامل التغير الفعال التي تراه الافكار الثورية العابرة للتغير وفق نظرية " البراكسيس - الغير مكتفية بالكشوفات النقدية والمهمة في اعمال هذا المؤلف ، ونحن نعرف ما اثارت اعمال هذا الروائي من اختلاف في الرؤى النقدية والمتمثلة في الاف الكتابات والمؤلفات عنه، مما يدلل على القراءة والتلقي الواسع له، ومن هذا الوسع انفتح النص الكافكوي على التأويل المتعدد والمختلف لطبيعة السرد كما في رواية المحاكمة، وميول بعض خطاباتها إلى السخرية التراجيدية لبعض صعاب الحالات والوقائع والحوارات المطبعة بالكأبة وعدم الاستقرار والتيه بشكل يثير السخرية لبطل الرواية المتهم في حديثه مع الاخرين وهو ينظر خارج المشهد إلى جهة بعيدة عن الشخص المتكلم معه ،وقد مال كافكا كثيرا في تضمينها كمعنى في ضياع وتشتت عقل المتهم "كاف" الذي رمز وجوده المنقطع بالحرف "ك" لإيمانه بغياب هوية الانسان.
واقترب المترجم رياض احمد طه، وهو الطبيب الفاحص بدقة تعدد علل جسم الانسان ومنه دقة الفحص في قراءته هذه الرواية الضبابية المتضمنه بيروقراطية عمل المحاكم في انظمة دول رؤوس الاموال ،و التي لقيت صدى كبيرا عند طبيعة الطبيب المترجم الذي عرفناه عن قرب بميوله إلى العمل الانساني داخل وخارج مهنته ايضاً ومن دعمه المتواصل الفقراء والمحتاجين وشجبه المواقف والحالات الطائلة لحقوق الانسان والتي زخرت بها الحياة وخاصة العراقية ،وكان لدراسته في العاصمة النمساوية فيينا وتخرجه منها وبقائه اثني عشر عاما هناك وهو مختلط كثيراً بعامة المواطنين النمساويين،وهم الشعب الناطق باللغة الالمانية، اللغة التي كتب فيها الروائي الجيكي الاصل اعماله مما خلق للمتَرْجم من اقترابه الاجتماعي فهما اكثر لروح اللغة الاجتماعية التي تحمل معاناة الانسان عند غياب العدالة الحياتية وخاصة المنطق العقلي في اسلوب اعمال المحاكمة المثيمة في هذه الرواية التي تعد من اكثر اعمال كافكا اثارة للتساؤلات ومنها المتأشكلة.
و لابد من الاشارة هنا ان طبيعة الكتابة السردية للرواية هذه وكما كانت في ترجمات اخرى ميلها كثيراً إلى كتابة الجملة والنسق بوضع الفاعل خلف المفعول به والمبتدأ بعد الخبر الذي قد يراه بعض القراء خطاْ في الترجمة هذهِ ومن نقل آلي للمفردة في نسق الجملة المعبرة المكتوبة.
ومن ملاحظاتنا ايضاً المثول المطلق بالتنوين المفتوح للحال في التوصيف للتعامل الشديد للحدث او النطق الواصف والناقل للحالة المذكورة وبما يعكس العامل النفسي المتشدد للسردية الروائية كما في كلمة – مفروضاً – القابلة للمثول بحالة – مفروض- الهادئة – في النسق المعبر هذا "لكن الرجل تخطى السؤال كأن وجوده أصبح مفروضاً ..." والمستعمل الاخر نلاحظ ان التنوين الظاهر على التوصيف –خطراً طفيفاً – مع طبيعة طفيف بمعناها القلة والشيء النزير لكنها امتثلت للتأكيد هنا في وضع تنوين الفتحة المشددة في وصفها عند الجملة "رأى "كاف" خطراً طفيفاً" كما في كلمات النسف المتمثل بكلمات متوالية الفتح المنون – طويلاً، رفيعاً، حاداً – "فتح أحد الرجال رداء السير وأخرج من غمد تعلق بحزام شُدّ حول الصدرية سكيناً لتقطيع اللحوم طويلاً ورفيعاً وحاداً".
ولخاصية المترجم كطبيب والمتعلقة بقراءته الرواية المضببة حوارياً كانت دقة الفحص له عاملا مهما في علمية البحث عن العلة ومعالجتها، هذه العلة التي ضمنتها الرواية في مهزلة العدالة في المحاكم وهي الحالة الاكثر خطراً في حينية غياب العدالة كمفهوم اجتماعي لزومي في تجميل حياة البشر ،لذا راح مندهشا لغرابة المحاكمة هذه المغيبة لأساسها القانوي العدلي في القاء التهم كما في حالة "يوسف كاف" الذي بدأت الرواية بوصف القاء التهمة والقبض عليه "لابد من أنَ أحداً قد افترى على "يوسف كاف"، لأنه وبدون أنْ يعمل أي شيء قبيح تم إلقاء القبض عليه صباح أحد الأيام"، ومنه الاقتراب الاكثر للمترجم لهذا العمل من بقية اعمال "كافكا" التي قرأها تباعاً.
وكما نعرف فان تضمين الروائي "فرانز كافكا" موضوع المحاكمة هنا خضع لمعرفيته في اختصاصه الدراسي حيث نال عام 1906شهادة الدكتوراه في القانون، وعمل بدون أجر لشرط الخدمة إلزامية في المحاكم المدنية والجنائية، وهذه الخصيصة لا يمكن ابعادها في السرد الروائي لعمل المحاكمة،
واتسم هذا العمل بالنقد لبيروقراطية مؤسسات الدولة ،حيث يقف المتهم "كاف" بمواجهة النظام القضائي و الذي نجد ان كافكا نفسه قد عايش المعاناة في وظيفته و حياته الشخصية ،لهذا لا توجد غرابة عندما تجد كما كبيرا من الكلمات القانونية في الرواية، وفي مشاهد كثيرة خصوصا ما يتعلق بالمكاتب التابعة للمحكمة نجد ان كافكا يركز على الفوضوية و التعقيد و كثرة الاجراءات الرسمية الروتينية في التأجيل كل مرة للقضية التي انهكته.
ومنه ملاحظته النقدية الكاشفة لأبسط الحالات السلبية لاحد جوانب مجريات المحاكمة وان كانت في المواقع البسيطة منها وهو يشرح سلوك الحرس "في المخزن تحدث تجاوزات كثيرة بالإضافة إلى قيامهم ببيع جميع الأشياء هناك بعد مدة من دون النظر إلى القضية ان كانت محسومة أم لم تحسم بعد".
وتضمنت الرواية ايضاح الخطاب الفكري الخاص في موضوع رداءة مفاصل المحاكمة و عند الاكثر سطوع في خطاب دفاع "كاف" وهو امام رجل القضاء بقوله الرافض لمحكمتهم "ليس هناك فائدة من أي شيء"، ويضيف وهو ساخراً "حتى كتيبك ايها السيد قاضي التحقيق يؤكد ما أقوله" حتى تجرأ "كاف" واخذ الكتيب وهو كتاب الذنوب المقدس لدى القضاء وغير المقدس عند المتهم "كاف" كما يصفه "كافكا"– اخذه من يد حاكم التحقيق لفترة و جيزة و رفعه بأطراف اصابعه من منتصف اوراقه كأنه يحذر منه – ويكمل في اخبارنا بتواضع و وهن هذا الكتاب وهو يصف تهرئه ووساخته - بحيث تدلت من الجانبين اوراق محشوة بالكتابة المتزاحمة والملطخة ذات الحواشي الصفراء، ويواصل القول الساخر والساخن بحرارة الشجب لهم والمتشكل بالهم المتصاعد من صوته وهو يخاطب القاضي "واصل القراءة باطمئنان فيه أيها السيد قاضي التحقيق ،إذ لا اخشى من كتاب الذنوب هذا اي شيء ،بالرغم من انه غير متاح لي ،الا انني امسكه بطرف اصبعين فقط ولا اخذه بيدي".
و لابد هنا من الاستقراء لحالة التشتت والانهيار واليأس التي اخذت بالمتهم الى حالة من عدم احترام المشهد حتى الانحطاط لينتهي به المطاف مضاجعا عشيقة محاميه المريض المقعد وهو قريب من عمه "كي" الذي جاء لمساعدته والذي يأخذه الهول من تهافته غير المبالي له.
ويمكن ملاحظة الشجب الشجاع للمتهم "كاف" للمحاكمة في كلامه امام القاضي، وهو احاطة شمولية لمضمون الرواية وخطابها الادبي في ذلك القول ... "ليس هنالك شك ان وراء ادعاءات هذه المحكمة في قضيتي وبعد القاء القبض علي والتحقيق اليوم منظمة كبيرة، منظمة لا توظف فقط حراسا مرتشين ومراقبين ساذجين وحكام تحقيق في احسن الاحوال مشغولين من مستويات متعددة وعليا مع خدم تابعين لا غنى عنهم كثيرين ومن دون عدد وكتبة وجنود وقوى مساعدة اخرى وحتى جلادين. انا لا اتراجع عن هذه الكلمة فزعاً...". ويذهب في تساؤلاته في الكشف عن الجهات المخفية المستهترة في احوال البشر وهي جهات تريد ارباك طبيعة الانسان وتعثره واشغاله عن ما يريدون في استغلاله المادي المهيمن وهم في المراتب العليا في الدولة والماثل طرحه في تواصل كلامه الاتي "ما الغرض من هذه المنظمة الكبيرة سادتي؟ انه يمثل في اللقاء القاء القبض على اشخاص بريئين وفي اكثر الاحيان اجراء محكمة حمقاء من دون نتيجة كما في حالتي، كيف امكن في هذا السخف لكل القضية التغطية على اسوء فساد في الخدمة المدنية..."؟
ثم يذهب المتهم بالتصريح عن ما يقوم به ابسط منتسبي المحكمة وهم الحراس المأمورون من رؤسائهم في الدرجات العليا وبما يعني المستوى المتدني ومن فقرهم لقلة اجورهم اليومية ليقوموا بسلب الموقوفين حاجاتهم بل حتى وجبة غذائهم كما في الكشف المرير هذا "...لهذا يحاول الحراس سلب الموقوفين ملابسهم عن جسدهم، ولهذا يقتحم المراقبون شققا غريبة ومنهم من يفضل ان يهان ابرياء امام اجتماعات عامة بدلاً من التحقيق معهم. الحراس تحدثوا فقط عن مخزن تجمع فيه مستمسكات الموقوفين، اريد ان ارى اماكن الخزن هذه لمرة واحدة التي تتعفن فيها اغراض الموقوفين الذين حصلوا عليها بشقائهم ان لم تتم سرقتها من قبل موظفي المخزن السراق".
ان تضمينات كشوفات الرواية هذه محاولة للتعرف على الكثير المخفي في مؤسسات الطمع المالي و انارة البؤر المظلمة فيها والمسببة للانحدار الاخلاقي والنزوع إلى هدر كرامة الإنسان من تفقيره وتمزيقه وعزله عن القرار كما في السلوك المعمول به في المحاكمة والعاملين فيها.