ادب وفن

"الخامس والعشرون من أيلول".. مسرودات عارية / عباس حويجي

يمكن ان يكون المتن الافتتاحي للرواية :"كل الشخوص والاسماء والامكنة الواردة في هذا العمل حقيقية"، بوصلة للدخول الى عالم الرواية.
إذ اعتاد قراء الروايات والعربية منها خاصة ان يصطدموا بلافتة افتتاحية عن ان الاشخاص والاسماء والاحداث في الرواية متخيلة وان حدث ان تشابهت مع احداث واسماء واقعية فإنها محض صدفة... ومثل هذه اللافتات ترمي الى غرضين. الاول: رمي القارئ في حقل الغام من الشكوك والمراجعات والمقارنات وحقنه بالفضول المعرفي لاكتشاف نسبة الحقيقة والمتخيل من الرواية. والثاني: دفع العرف الاجتماعي بعيدا عبر ستائر لغوية لحجب الواقع الحقيقي والفاعل الحقيقي، وتحييده قانونيا، واللافتة ايضا حيله اعلامية لجذب القراء.
لكن في رواية "الخامس والعشرون من ايلول" لعامر موسى الشيخ- ماجد وروار، تبني الحقيقية طريقا لنفسها عبر المسرودات، وليس هناك من حاجة لستر شيء او بإخفائه باسم مستعار، فالحقائق هنا عارية مباشرة من دون تزويق او مداهنة او لعبة تقنية لاستدرار الاعجاب. واذا كانت حقائق الواقع هي ميدان الرواية وجذرها الطري، فما دور التخييل الذي يبدو ضروريا لتليين صلابة الواقع، وخشونة حقائقه وضخ بعض الموحيات والشخصيات لترطيب الاحداث، وتحفيز الشخوص، وتشذيب الدراما. والتخييل هذا ليس خيالا محضا، انما هو اختيارات واختراعات الروائي لتمهيد ارضية درامية لروايته، والتخييل ليس خروجا عن الواقعية، فالواقعية تفيض بوقائع اغرب من الخيال. من هذا فالرواية حين تستعين بالواقع وتلتحم به، ضاربة عرضا عن اي تخيل ضروري ام غير ضروري، لا بد ان نلمس جفافا ما، يحد من استطلاع القارئ واستمرار القراءة. لكننا لم نلحظ اي جفاف او وعورة احداث، حيث اخذت لغة الشاعر والصحفي المتمكن من ادواته "عامر موسى الشيخ" دورها في التعويض عن غياب التخيل الروائي. هذه اللغة التي روضت السرد وجعلته اعترافا حميما، ورفعت الحوار بلهجته الشعبية الذكية والمتذاكية تواصلا فكهاً، والحس الوطني المفعم بإنسانية شفيفة، والنضال اليساري المتمرد على اعتى دكتاتوريات الشرق الاوسط، والتعلق العاطفي بمدينة متصابية حتى في هرمها، والشحن العاصف للتضحيات المروعة وكأنها فرض ملزم. كل هذا وأكثر منه امتزج رحيقه في لغة الرواية، وسيلها البلاغي، ونعومة الانتقال من السرد الى المنولوج الى الفلاش باك في تقنية سردية اعتمدت على الراوي المتكلم، والراوي هو الفنان المسرحي ماجد وروار، شاب من عائلة عراقية بسيطة الحال، ولأنها نشأت في بيئة سياسية هيمن عليها اليسار منذ اربعينيات القرن الماضي، فقد انخرط شبابها في العمل السياسي تعبيرا عن جذورها الطبقية واحلامهم في حياة عادلة كريمة. يبدأ الراوي قصته وقصة عائلته في الاسبوع الاخير من حرب الخليج الاولى والمسماة "عاصفة الصحراء"، قبل بدء الهجوم البري واثنائه، الى حين انسحاب الجيش العراقي فارا من معارك لا قبل له بها، وكان الراوي جنديا مكلفا بالجيش العراقي الذي احتل الكويت. اي ان زمن الرواية لا يتعدى الاسبوع او اكثر منه بقليل. وهو اسبوع خرافي لا ينسى من تاريخ العراق ولا من ذاكرة ابنائه، حشد فيه الراوي كل ذكرياته وشجنه وحياته الملتاعة بالرقابة والعنف وخسارة شهيدين من اخوته، ليستخلص لنا شهادة تاريخية عن حياة مدينة اسمها "السماوة" وعن وضع سياسي واجتماعي افترسته الدكتاتورية. وعن حقبة من الحروب والويلات مازال اثرها قائما.
هل يمكن اعتبار رواية "الخامس والعشرون من ايلول" رواية تأريخية، ام وثيقة تاريخية، ام سيرة ذاتية، ام مذكرات؟ كل هذه تلعب دورا في الرواية بهذا الشكل او ذاك. فالرواية التاريخية كما هو معروف تستخدم التاريخ كإطار يجمع الاحداث زمنيا، وينتقي الروائي منها ما يحتاجه لاستمرار السرد، فالأحداث التاريخية منتقاة لخدمة السرد وليس لصدقها التاريخي.
رواية "الخامس والعشرون من ايلول" تنتمي تاريخيا إلى الذاكرة الجمعية، ذاكرة الشعب، والتي تروي لنفسها احداثها وانفعالاتها بتلك الاحداث كصيغة من صيغ الديمومة التاريخية، والتي كانت تصاغ شفاهيا وتحفظ في الصدور وتنتقل بين الاجيال، وجاء الادب ليدون هذه الذاكرة ليربط وجدان الناس بماضيهم، وهي شكل من اشكال خلق الاثر وصياغة الروابط بين الادب والمجتمع. تقوم تقنيات الرواية بخلق ذلك التفاعل الخفي بين القارئ والنص، فالقارئ انسان صعب المراس، لا يمكن ارغامه على الاستمرار في القراءة وخسارة وقت يعد ثمينا الا باستحقاق، وهذا الاستحقاق هو ما يسعى اليه الروائي، كل روائي لتعزيز نصه بما يجعله مستحقا للقراءة، فالتقنية هي ما يجعل السرد فنا. وليس صعبا معرفة تقنيات السرد، فهي مدروسة ومطروحة في الكتب النقدية، فضلا عن الروايات ذاتها. لكن الصعب هو الاختيار الدقيق لتقنية تتماثل مع طبيعة الرواية وتشابك احداثها وتنوع مصادرها. فاختيار تقنية السارد او الراوي المتكلم الذي يتحكم بمجرى السرد وحيثياته، تبدو تقنية مناسبة كون الراوي يكتب عن تجربته الحياتية المعاشة، انها اشبه بمذكرات شخصية تتخللها استرجاعات لبعض الاحداث في تاريخ الشخصية وتاريخ المدينة، لكن الرواية تنتهي تقنيا في الصفحة (120) بعد دخول الراوي مدينته السماوة منسحبا مع الفارين من الجيش العراقي من الكويت بعد ان خذلته قيادته في حرب عاصفة الصحراء او ام المعارك. انسحب ماشيا في طريق محفوف بالموت والمخاطر، وهنا ارتقى الراوي إلى ذروة السرد. اما الفصل الاخر او الجزء الاخير الذي يبدأ من الصفحة (121) فهو رواية اخرى، ربما تشتبك مع الرواية الاولى بالأسماء والاحداث ولغة السرد، لكنها تبقى مختلفة، كان ممكننا ان تسير الروايتان في سكتين متوازيتين لتصلا معا الى ذروة روائية واحدة. لكن هذا لم يحدث ربما بسبب بداية الخبرة في استخدام التقنية الروائية، فالرواية هي التجربة الاولى لمؤلفيها. هناك كلمة ينبغي ان تقال عن التأليف المشترك لرواية "الخامس والعشرون من ايلول"، بين الشاعر والصحفي عامر موسى الشيخ والفنان المسرحي ماجد وروار. اعتدنا ان نقرأ روايات مشتركة التأليف بين روائيين متمكنين لغة وفنا مثلما حدث في رواية "عالم بلا خرائط" للأديبين الكبيرين جبرا ابراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف.. لكن رواية مشتركة بين شاعر ومسرحي لم تكن لتحدث الا بتآلف الاثنين وحرصهما على اخراج نص روائي دونما نظر الى هذا الاعتبار او ذاك، انه اشبه بتعاقد فني بين شاعر وفنان. فالفنان ماجد وروار صاحب القصة الخام، مالك الفكرة، والشاعر عامر موسى الشيخ هو مخرج العمل وكاتب السيرة، تقع عليه مسؤولية العمل الفني كرواية، واسلوبها اللغوي، ومناخها الدرامي، وهي مسؤولية ثقيلة وخطيرة. وهنا يستحق الاشادة بهذا الجهد الخلاق، فقد فجر مخزونه اللغوي وطاقته الشعرية وخبرته الصحفية في كتابة سيرة ومواقف شخصيات المدينة المؤثرة في تربتها الاجتماعية، ونزف تعلقه العاطفي بمدينته لكي يخرج هذا العمل رواية مكتملة عن الزمن الصعب والانتهاك السياسي والحروب والعبثية المجنونة، انها صوت المدينة، مدينة السماوة المغيب والمهمل من التاريخ والتي طالها عنف الدكتاتورية واهمالها معا. انها رواية اليوم، نقرأها لننتقد حياتنا واهوالنا ونسترجع تلك الحكمة المختبئة في الصدور والعقول بأن الشعب سيعيد حياته وطبيعته وديمومته بينما صانعو الحروب سيقبرون ويهملون مع اوسمتهم وابهتهم في مزبلة التاريخ.