ادب وفن

قراءة سردية منتخبة ...(بغداد ..مالبورو) للروائي نجم والي / مقداد مسعود

قرأتُ للقاص والروائي نجم والي، معظم ماوصل العراق من روايات وقصص، بإستثناء روايته (صورة يوسف) ..روايته (بغداد ..مالبورو ) قراءتي الأولى 2013 والثانية في شباط 2016ضمن مشروعي النقدي، عن الرواية العراقية ويعلم الثقاة الذين أطلعوا على مخطوطة الجزء الاول بذلك ..قبل شهرين زار نجم والي ، البصرة ، زيارة ثقافية ، ألتقيته لدقائق معدودات ، وأعطيته رأيا وجيزا حول هذه الرواية وحتى أكون عند وعدي ، سلمت أوراق مقالتي لمن يكتبها تقنيا ..في هذه المقالة توقفت عند السرد الروائي وأخترتُ عينات وأختصرتُ مقالتي.. ورأيتُ في القراءة ، رؤيتي إلى نسق ناظم يوحي بالانسجام، ومحاولة لبناء تركيب متساند المكونات من مرجعية يكتنفها التعدد في الصيغ والتباين في الاساليب / سعيد يقطين *
(*)
أول مايلفت إنتباه القارىء النوعي : المسافة الزمنية : بين زمن السرد وزمن الحدث الذي سيعاد إنتاجه سرديا ، وبشهادة السارد المشارك (حدث ذلك قبل سبع سنوات في بغداد وهي أصعب السنوات التي عاشتها المدينة../ 13) ومع التقدم في القراءة ، ستمر القراءة نفسها بممرات مزحومة بتفاصيل الحياة اليومية ، التي يعرفها القارىء العراقي بل العربي أيضاً..وهناك مسافة بين تعرف السارد المشارك إلى سلمان ماضي وبين سرد سلمان ماضي ، لوجيز خيبته العاطفية ..(وكان علي أن أنتظر ست سنوات على تعرفنا أن أنتظر نشوب حرب طاحنة أخرى ../ 50) (لم يشأ الالتحاق بالجبهة قبل أن يروي لي القصة التي وعدني بها ذات يوم ../ 51)
(*)
بمؤثرية لقاء معين سيتغير مسار حياة السارد المشارك (من أين كان لي أن أعرف أن رجلاً يسكن بعيداً عني آلاف الكيلومترات ، انتظر الفرصة السانحة طوال هذه السنوات لكي يلتقي بي../ 14)..(من دون أن يدري، أنه في اللحظة التي سيزوره فيها سيتبدل رجله هذا ، سيتغير ويعيش حياة جديدة بعد ذلك اليوم التاريخي الذي سيطرق فيه عليه الباب ../14).. لكن سرد ماجرى للسارد المشارك ، لايأتينا مباشرة َ، بل هو سرد مرتهن بشخصية لها مؤثريتها في حياة السارد ، وبعد سرد علاقتهما ، ينتقل السارد الى سرد سبب التغيير ، إذن هو سرد مرتهن / مؤجل ، أعني هو سرد يلي السارد الأول ، وبشهادة السارد ..(لابد من الحديث أولاً عن سلمان ماضي ، فمن دون معرفة سلمان من الصعب فهم القصة وماجرى لي في تلك السنوات .نعم من الصعب معرفة لماذا كان على حياتي أن تتبدل منذ ذلك الحين ../29)
(*)
تضبيب السرد الميداني لإسباب أمنية (كنت أسكن في بيتي في حي مرموق من بغداد، ليكن اسم الحي الذي عشت فيه حي الخضراء مثلاً أوحي الجامعة ، أو إذا شئت ليكن اسمه حي الأطباء أوحي الإعلام لايهم ، من الأفضل التكتم عليه الآن ../15) وهناك محذوف تتشكل منه المواد الخام لإنتاج هذه الرواية ،وبشهادة المؤلف نجم والي..(كم كان بودي ذكر الاسم الصحيح للصديق ع.ك، لكن حرصه على التكتم على اسمه في كل مايكتب،وخوفه على حياته في العراق ،جعلني أحترم رغبته بعدم ذكر اسمه الحقيقي .الأمر ذاته حدث مع صديقنا الشاعر ج.، والذي سيجد بعضاً مما كتبه عن سيرته في هذه الرواية ،فحرصي عليه جعلني لاأشير إلى أسمه بالكامل ../363)
(*)
سرد ملجوم ..
(لم أشأ إحراجه أو منحه الانطباع بأنني مجرد مقاول دعي عنده المال يستطيع مساعدته . بل ببساطة لأنني لم أشأ في ذلك اليوم الكشف له عن فشلي في الزواج ، أية مفارقة ،قلت لنفسي في فترة تعارفنا الأولى في السليمانية – في سد دوكان – لم أشأ الحديث عن قصة حبي مع أزهار، لكي لاأثير حزنه بفرحي آنذاك .في هذه المرة لم أشأ الحديث له عن فشلي لكي لايتخذه تعليلاً لما قام به من ترك زوجته وطفله وذهابه إلى كركوك ليكون قريباً من أحلام .../86).. (أراد عن طريق كل القصص تلك تجنب القصة الوحيدة ، التي كلما رغب أن يرويها لي أرتد لسانه../ 98).. (وعندما يصل إلى فتاة في القرية اسمها كول يتوقف عن الكلام ، يبتسم ، يحمر خداه ، ثم ينظر إلى عيونهم ثم يقول لهم ، كلا لن أقول لكم كلمة واحدة عنها../102)
(*)
إحتمالات السرد
هنا السارد المشارك ، ليس عليما بذات الصدور ، مثل السارد التي ألفناه في الروايات الكلاسيكية ،فالسرد هنا يستقرأ ..يستنبط ..ثم بمؤثرية نظرية الاحتمالات ،تتشظى ذرة السرد :(ربما سخر مني في داخله ...ربما استحوذت عليه في تلك اللحظة الرغبة بالبكاء..، أو ربما لم تكن لديه الرغبة في البكاء ..ثم فكرت كلا أنه يشعر بالخوف ...ثم فكرت كلا إنه مجنون دمرته الحرب .../87) ( بعد ذلك فكرت، كلا لديه رغبة بالضحك لكنه لايستطيع الضحك ..ثم فكرت كلا لديه رغبة بالبوح لي ولايستطيع ، إما لأن وقت البوح لم يحن بعد ، أو أنه لايريد النطق به بعد فوات الأوان ، أليس ذلك ربما ماجعله يتجنب رؤيتي ،بعد ذلك فكرت كلا لديه رغبة بالصراخ بي ، بتأنيبي ، بتحميلي مسؤولية ماحدث من مجازر وحروب ، لكنه لايملك شجاعة القول../ 88)
(*)
المحذوف من السرد
(كيف أعبر له عن قلقي وأدعوه للألتحاق وأنا أجلس في بغداد ؟ / 47) وحين يخبره سلمان أنه سيذهب مجبرا إلى حقول الموت في الخفجي ، فالسارد المشارك وبشهادته (لم أقل له ،ولماذا لاتنتحر مثل بغل ، لأنني أعرف أنني لست مؤهلاً لمثل هذا القول ../47)
*سرد إفتراضي ..
( ظننت أن إعجابه بي هو الذي جعله يخترع لي الحكايات وينسب لي جملاً وسلوكاً من صنع خياله .خيال شاب دخل للتو سن العشرين ../ 17) ...(إن البلاد كلها جنت منذ دخول الأمريكان حتى الآن ، تدهور الأوضاع جعلهم لايكتفون باختراع القصص لأنفسهم وحسب بل وللآخرين أيضا، ألم يخترع نمير قصة بيعه للبيت ؟ / 25) ..(طبعا من الممكن أن أبالغ ، من الممكن أن يكون ذلك مجرد ادعاء مني ، لاعلاقة له بالحقيقة ، كأن يكون أمنية مني لاغير ../ 42)
(*)
*سلمان يسرد رسالته ُ
سوف يسرد علينا السارد المشارك ، ماسرده سلمان إليه من رسالته التي تصل لم إلى السارد المشارك ..(بدأ سلمان بالحديث عن الرسالة التي لم تصل لي على الإطلاق . الرسالة التي كتبها لي في صحراء حفر الباطن .../99)..
(*)
السرد بالمناوبة
كلاهما يتحدثنا في جهة سردية واحدة : سلمان ماضي والطبيب البيطري ،وجهة السرد هي شخصية الروائي نجم والي :(حديثنا من فترة إلى أخرى عن صديقنا هارون ، خصوصاً في الأيام الأولى من صداقتي مع سلمان ، كل واحد منا تحدث عن الجوانب التي يعرفها فيه ولايعرفها الآخر ../ 43) وهناك مناوبة في سرد الخوف بين سلمان وزوجته نخيل: (أتذكر أنه حدثني بأنه يعرف أن نخيل كانت ترى الخوف مرتسماً في عينيه ، وكان هذا وحده يكفي لأن يشعر بالخوف ../ 97) وهناك تبادل سرد الرصاص في الخفجي بين سلمان والأسير الأمريكي : (لايعرف بالضبط مَن أطلق النار على مَن ../106)
(*)
تغيير جهة السرد
(حدثني عن قصص كثيرة كأنه أراد التعويض عن كل تلك السنوات التي لم نر فيها بعضنا، أو كأنه – وهذا ماعرفته لاحقا – أراد عن طريق كل القصص تلك، تجنب القصة الوحيدة التي كلما رغب أن يرويها ارتد لسانه في الوهلة الاولى مثل صمام يغلق فمه ، لكي يمنعه من الكلام ../98)
(*)
*قراءة سرديات الحرب
(أريش ريمارك ، هنري باربوس ،ليونارد فرانك ،أندرية مارلو،أرنست همنغواي ،كان يوصيني بجلب كتبهم معي كلما ذهبت في إجازة ،...ولم أعرف إلا لاحقاً أن كل تلك الكتب دارت عن موضوع واحد : الحرب ، ذلك هو ديدنا، المكتبة معنا أينما تنقلنا../43)
(*)
سرديتان للغزو ..
واحدة ، تنقلها الفضائيات وهي سردية غير واضحة المعالم ..كما أنها بالنسبة للعراقيين سردية متأخرة نسبيا (لكن حتى رؤيتنا المتأخرة لصور المعارك التي دارت هناك لاتستطيع تقديم صورة لماجرى حقيقة هناك ،هل تفهمني ، أن تجلس وترى على شاشة التلفزيون صور قصف بغداد هو غير أن تسقط تلك الومضات التي تراها على الشاشة على شكل حبيبات ../ 61) هذه سردية مشفرّة، لكن تفكيك الشفرة هو السرد الحقيقي فالحبيبات الوامضة (شظايا تمزق جسدك الحي ّ، وهو الفارق هذا الذي يجعل القلب يضرب بقوة أو يتوقف عن الخفقان ، الأوصال ترتعش أو تتقطع الأنفاس ،الجبهات تعرق أوتصطك الأسنان ،كل مايمكن أن ينتجه الخوف من عرق ويباس فم ،من بلع ريق ولعق لسان ،أقصد العيش في جحيم النار التي تطلقها طائرة مجهولة أو تحت رحمة اليد التي تضغط على زر أوتوماتيكي يرسل إلى بيتك صاروخاً، هو غير الحديث عنه ، لاتخيل يعبر عن حقيقة الألم لحظة أن تجلس تحت رحمة الموت والدمار ../ 62)
(*)
المسار التقليدى للزمن سيوقفه السارد ، ما أن يصل الى بيت سلمان ماضي ، فالحركة الفيزياوية الاضطرارية ،هي نقلة من بيت السارد الى مكان سلمان، منها ستتراجع الحركة لسنوات خلت ، سينطوي سجل الراهن تحديدا 28حزيران 2004 ونعود الى عشرين سنة للوراء وتحديدا 1984/ ص31
(*)
سلمان بنسخة ثانية
النسخة الثانية من سلمان ماضي ،هي من إنتاج ماسرده الآخرون في شخصيته :
سرد سلطة الطاغية :(قال إنهم اقتادوه ، ...طلبوا منه أن يعترف بعلاقته بالمعارضين ،وأن يشي بأصدقائه الذين كانوا بالنسبة لهم شيوعيين ، وحين قال الحقيقة وهي أن لاعلاقة له بما يتهمونه فتحوا عليه أبواب الجحيم .الحصيلة ماتزال ماثلة في جسده ،قال إنه وقّع على تعهد مايثبت أنه مذنب وباح بكل مايعرفه عن الأصدقاء ، خرجت من ذلك المكان يلازمني شعور بالعار .كسروا كرامتي وإنسانيتي .شعرت أنني حقير ، بدأت العيش ككلب همه الأوحد ألا يُعذب مرة أخرى ،.../ 38) لقد انتجت أجهزة القمع سردها البشع في جسد ونفس سلمان :(حتى إذا عاد فإنه لن يعود الشخص ذاته ، سلمان الذي عرفته ، كأنه تنبأ بما سيحدث لنا وللبلاد ../45) وللحرب بشاعتها المسرود في سلمان أيضا :(لم أفهم لماذا تحول سلمان إلى هذا الشكل ، إلى ظل سلمان ،وليس سلمان الذي عرفته قديماً، لدرجة أنني لم أتوقع منه يوماً أن يلجأ للسكن في منطقة الميدان ،فهذا مالم يكن في الحسبان ../92) ..(فهو ومنذ عودته من حفر الباطن تحول إلى ظل سلمان ، إلى ظل محطم لذلك الشاعر الذي كان أصلاً حزينا../ 107)
(*)
متواليات سرد ..
سرد سلمان / 51 عن أحلام يعتمد على سرد وليم الى سلمان /52..ثم على سردها هي لقصتها / 52
(راح يحدثني عن أحلام ، أو عن الفتاة التي لم يعرف لها أسماً فأطلق عليها ،، أحلام ،، مثل أحلامي المذبوحة ../ 51) هنا لدينا حكي شفاهي يحيكه سلمان لصديقه الطبيب البيطري ، على يدي هذا الطبيب سيتحوّل الحكي الى مدونة سردية (أتذكر أنني دونت مارواه لي ،ومع كل جملة كنت أشعر بالغصة ../ 51) وما سيحكيه سلمان هو حكي صديقه وليم عن أحلام .. ثم ماتحكيه أحلام عن نفسها الى سلمان ،هذا ماسنعرفه من السارد المشارك الطبيب البيطري ..(الصدفة قادته للتعرف عليها وعلى قصتها الحزينة، في البداية من وليم وهو جندي الحانوت المسيحي من أهالي كركوك ، ثم منها شخصيا ../52) ..ان المتوالية السردية ، تعيدنا إلى النسيج السردي الخيطي في ألف ليلة وليلة ..
(*)
تأجيل السرد
سرد رسائل سلمان /56 وفيه سرد متأخر / سأطلق عليه (يسرد الحرب ../60) //62/ 69
(أدون ماحرصت ذاكرتي على خزنه ،حرص سلمان من طرفه على توثيق كل شيء ، عن طريق كتابة الرسائل لي ...للأسف ضاع بعضها أو ضل الطريق ،كما عرفت منه لاحقا بعد سنوات ، أكثر من عشر سنوات ،البعض الآخر وصلني في النهاية ،خصوصا تلك الرسائل التي أرسلها لي على عنوان البيت .. الرسالتان ماقبل الأخيرة اللتان وصلتاني بطريقة عجيبة بعد نهاية الحرب بسنة أو أكثر ، والأخيرة التي عرفت بها بعد ذلك التاريخ ، بقرابة خمس عشرة سنة ../ 56).. ونلاحظ ان سرد سلمان هو سرد السرد ، أعني ان سلمان يسرد ماتسرده الحرب فينا ضمن جبهات القتال وفي المدن العراقية وتحديدا سرد طائرات التحالف في جسورنا والمؤسسات وبيوتنا وأجسادنا ، ومايصلنا من كل هذا السرد يصلنا (مفلترا) وبشهادة الطبيب البيطري ..(لم نعرف عن أخبار الحرب على الجبهات الجنوبية غير ماسمعناه من محطات الإذاعة الرسمية وبعض المحطات الأجنبية الأخرى ، والتي خضع أغلبها في حينه للتشويش ...لافي ذلك الحين ولا بعده عرفنا الستالايت ../61)..
(*)
سرد الطائرات
ماتسرد الطائرات ، يصل إلى المشاهد ، عبر ماتسرده الكامير ، والكاميرا ، يكون سردها مشفرّا..(أن تجلس وترى على شاشة التلفزيون صور قصف بغداد هو غير أن تسقط تلك الومضات التي تراها على الشاشة على شكل حبيبات ، شظايا تمزق جسدك الحيّ، وهو الفارق هذا الذي يجعل القلب يضرب بقوة أو يتوقف عن الخفقان../61)
----------------------------------------------------------------------------
*نجم والي/ بغداد..مالبور/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت /ط1/ 2012
*د.شرف الدين ماجدولين / ترويض الحكاية/ منشورات الاختلاف / ط1/ 2007 / سعيد يقطين : التراث السردي : النص والنسق الثقافي- ص19/