ادب وفن

«الحداثة السّائلة».. إشكالية المفهوم وهويته / رامي أبو شهاب*

في كتاب "الحداثة السّائلة" يأتي عالم الاجتماع زيجمونت باومان على بعض المفاهيم والسياقات التي تؤطّر الحاضر، ولا سيّما مذهب التّحول الذي ساد نتيجة ما يُعرف بالحداثة، ويتمظهر بتحولات في البنى العميقة لكل من الثّقافة والاقتصاد والمجتمع، فأهم ما يميز الحداثة أنها معرضة لتغير مستمر، كما فعل بوتيوس إله البحر هرباً من صائديه.
هذا التوصيف يتّسق مع إشكاليات الحداثة وآثارها على الهوية. فعملية الحداثة تتميز بحتمية التّحديث، أي عملية إحلال بنى حديثة موضع البنى القديمة على النحو الذي يخرج بالحضارة من أطوار الجمود والثبات إلى الحيوية الدّائمة. لا شك في أن ثمّة ذعرا في الغرب من هذا المصير، أو من تثبيت الأشياء القديمة، واستبقائها إلى أطول وقت ممكن، ولهذا برزت أفعال الصّهر، والإذابة، وتدمير البنى القديمة سعياً نحو الكمال. إنها عملية أقرب إلى الوسواس القهري، ومركزها عملية التّحديث المستمر، أي أن ثمة دعوة لرفض للقيم الصلبة، فأهل الحداثة يرون في التغير إجراء أوليّاً سوف يؤدي بطريقة ما إلى الاستقرار والرفاه.
يتكون الكتاب الذي ترجمه حجاج أبو جبر، ونشرته الشبكة العربية للأبحاث في بيروت 2016 من خمسة فصول، علاوة على محور أخير جاء بعنوان تأملات، ومقدمة. كل فصل من الفصول يحتفي بنموذج لعملية تفكك المجتمعات الغربية، وسعيها إلى الحداثة، التي أودت بهذا الشكل السّائل من التّحول، إذ يناقش باومان في الفصل الأول إشكاليتي التحرر والحرية، أو ذلك المسعى الذي قاد عملية الصّهر. إنها دعوة صريحة إلى التخلص من القيود، وقوامها أن الإنسان بات يمتلك إرادته الكاملة، ولعل هذا ما أحدث نمطاً من التّبدل في تكوينات العصر، ومسالكه.
في الفصل الثاني الموسوم بالفردية، التي تعني مظهراً اجتماعياً أطلقته الحداثة الغربية نحو عالم أكثر رفاهية وثراء، غير أن هذا التوصيف اتخذ مظهراً زائفاً نظراً لبروز السيطرة، أو تموضع السلطة الممثلة بفئة صغيرة شرعت تتحكم في كل ما حولنا، ولعل هذا أقرب إلى تشبيه أو نسق المصممين الذي يضعون نماذج للمسلك الحياتي والمعيشي، ولكن من خلف الكواليس، وبهذا فإننا أصبحنا نستسلم إلى البلادة والجهل والغباوة، كما المصير الذي بشر به ألدوس هكسلي في رواية تناقش وجود فئتين: الأولى مسيطرة وأخرى منقادة، وهنا إحالة إلى ثقل الرأسمالية التي تهدف إلى الإبقاء على نماذج مستمرة من الحياة المهنية التي تكرس نمط الهيمنة والعناية بالوسائل لا الغايات، ولاسيما سعي البشر إلى الاحتذاء بالنماذج من خلال تتبع الشخصيات الشهيرة، تبعاً لغياب نموذج القادة، علاوة على انتشار ثقافة الإدمان لتحقيق السّعادة عبر استهلاك أكبر قدر من المنتجات، التي لا تقدم سوى وهم السعادة التي أمست تمتلك تاريخ صلاحية محدد؛ ولهذا فهي سريعة الزوال، وهكذا فثمة إدانة لمجتمعات الاستهلاك وقيم التسوق وحريته القائمة على خدعة الجاذبية التي تنتهجها القيم الرأسمالية من خلال وفرة الخيارات التي تتيح شكل الحرية فقط.
في الفصل الثالث "الزمان والمكان" نقرأ إحالة إلى نماذج تمثلها مدن العزلة والإقصاء، أو بعبارة أخرى وهم الحماية والتحصين، كما بشرت بها الحداثة الغربية، فهنالك مدينة تتوفر على كل ما يحتاجه الإنسان، بيد أن هذا أفضى إلى إفرازات تتمثل في انتشار أنساق من الانكسارات النفسيّة، والمتعاليات المجتمعية لأمكنة باتت تعزل ذاتها عن الآخرين، أو المختلفين، لقد أضحت المدن تتكون من "غيتوات" العصر الجديد حيث يلتقي الجميع غرباء تحت سمة التحضر، ومع ذلك فثمة سمة أخرى لهذا الزمن، وتتحدد بقيم التاريخ الزمني الذي أمسى نتاجاً لمعيارية جديدة، تتصل بمعنى انتهاء أو أفول جهد الكائنات العضوية واتصالها بالمسافة المقطوعة، إذ بدأت تتحول إلى تاريخ الزمن الذي ارتهن لمظهر جديد من اختراع الإنسان، وهكذا لم يعدّ الزمن مشكلة، فقد أصبحنا نتحكم فيه، ويخضع لنا.
في الفصل الرابع من الكتاب، الذي جاء بعنوان "العمل"، نقرأ إشارات لمعنى الارتهان للحاضر ونجاعة العمل بوصفه مجالاً إلى الأمام، أو نحو التّقدم، ذلك الإيمان بالإنجاز والتطلع إلى المستقبل عبر منظور حتمي لا يقبل الشّك، إنه أمر يتصل بتفعيل اللحظة الراهنة، والاستثمار في كل شيء حتى تمتلك المستقبل، ما يعني أن ثمة مجالاً حيوياً، لا ارتهاناً للماضي، فليس ثمة عوائق إنما سيولة دائمة، بيد أن هنالك مناقشة حول من يقود هذا المسعى، ولا سيما في غياب السلطة، وانفلاتها، ما يعني أن هنالك أسئلة تطرح حول نجاعة هذا التوصيف الحداثي، كما أسئلة تنبثق من قبل فلاسفة عُرف عنهم نقدهم الشديد لهذه المجالات، ومنهم فرانسوا ليوتار. فالحياة أصبحت مصنوعة، فالكمال لم يعد المطلب النهائي كما كان يُعتقد، إنما السّعي الدّائم إلى التقدم اللانهائي، وبذلك، فإن العمل بوصفه ممارسة اجتماعية خضع لتحولات دفعته إلى أن يتخفف من نسقه الاجتماعي الكلاسيكي إلى كونه لعباً حراً.
في محور آخر بعنوان "استطرادات " تاريخ موجز لفكرة الإرجاء ويتمحور حول تسرب تقنية الإمساك بزمام الأمور نحو نمط جديد، ينهض على تعقب الأحداث، أي نفي الكسل أو التراخي، فالزمن دائم التّحول، ولا بدّ من استغلال الفرصة، ولهذا يتخذ الإرجاء مكانة متقدمة في الوعي المعاصر من أجل استيعاب الأمور الجديدة، أو الطارئة كما الدائمة التحول، إنها لحظة مقاومة لنزعة الإشباع من أجل المزيد من الاستهلاك، ولعل هذا ينسحب أيضاً على الروابط الإنسانية التي تحولت إلى حالة الميوعة.
ينتهي المشهد الأخير من كتاب الحداثة السائلة بمحور "تأملات في مفهوم الكتابة والسوسيولوجيا" وهي تساؤلات حول كتابة علماء الاجتماع من حيث دورها في تحطيم الجدران، وتقديم الحقائق، ولكن عبر اللغة التي تكمن بين أوطان متعددة أو ثقافات، فهنالك احتفاء بارز بمعاني الإرجاء الدائم حسب تعبير جاك دريدا، الذي يصرّ على تعددية المعنى، وعدم ثباته. إن فناء مفهوم الوطن يبدو أمراً دافعاً إلى التأمل في عصر الحداثة السائلة، فضلاً عن انبثاق معاني المنفى، ورفض الاندماج، أي أن يعلق المرء في المؤقت والسّريع، كما الزّائل، ومن هنا تكمن أهمية كتابة علم الاجتماع من منظور باومان بهدف تحديد الإشكاليات، وبعثها في المحيط التأملي وصولاً إلى أهمية الاختيار، كما العيش المشترك بهدف التخفيف من بؤس البشر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
٭ كاتب فلسطيني أردني