ادب وفن

نازك الملائكة والبحث عن فلسفةٍ انفرادية / قيس مجيد المولى

للتحقق من وجود السعادة أو عدمها، ولإعادة تركيب لا ترتيب قضاياها الكونية كي يكون التأمل روحيا صافياً موسوما بالاكتشاف لزعزعة التعريف السطحي للحقيقة، فان تشاؤمها لم يضر بأصالتها الشعرية، ذلك المفهوم الذي حذر منه "بريتون" حين يكون الإفراط في اتجاه محور واحد أو قضية معينه.
لأن التعبير عن الصراع الداخلي لديها لا ينحو باتجاه التراكيب المفتعلة والتي يراد بها الآني وغير المترابط من لحظة التوهج بل بتماسك قيمة الألفة بالحزن بتعريف "غاستون باشلار" فخُلّقت اللذة في تصور مفهوم الألم لا في تصويره وقدمت مبرراتها في التأثير الذي بني أصلاً على قلقها وحيوية أدواتها المنتجة وتوافقها مع ما يقوم به غيابُها في اللاوعي بإرسال إشارات الخشوع والقبول بما يحمله القادم الأزلي لتصبح الكتابة هي المتعةَ والمنظم لهذه المتعة هي المفارقة في إحساس الخيال والباعث لهذه السجالية هو الهروب المستمر مع موحياتها من الظلمة والخوف والقلق، وقد بنيت هذه الموحيات على الإحساس بالضياع لرغبتها في تعزيز بداياتها الأولية، لكون التحرر من السكون في الزمان والمكان والمألوف من صدمة الموعود. ولعل في وادي العبيد التعبير الصريح لهذه الصدمة:
ضاع عمري في دياجير الحياةِ
وخبت أحلامُ قلبي المُغرَقِ
ها أنا وحدي علي شطِ المماتِ
والأعاصيرُ تنادي زورقي
ليسَ في عينيَ
غيرُ العَبراتِ
والظلالُ السودُ تحمي مَفرقي
ليس في سمعي غيرُ الصَرخاتِ
أسفاً للعمرِ
ماذا قد بقي
أنظمة التشغيل
لقد اتشحت فلسفة التشاؤم في شعر نازك الملائكة بعدم التوافق مع جدلية التناقض والمرادفات وهي تعاسة لا تتصل بالمكونات المادية أي الرغبة في الاستحواذ على الرغبات والأمنيات سواء تلك التي تتصل بالسياق العام لما يطمح المرء إلى تحقيقه، فنازك الملائكة قد انفصلت روحياً عن التفسير المعاش والقبول الطوعي للحقائق الكونية وكان ذاك في أول سجالاتها حين عشقت الليل للبحث عن منفذ للنور والسير إلى الطريق العلوي من منابع اشتغالاتها في "البحث عن فلسفة انفرادية" وان فلسفتها غير قابلة للمزاوجة مع الآخرين حتى لو تشابه الآخرون في الوصول إلى زاوية ذلك البعد غير المنظور، فقد ابتعدت كلياً عن التشكيك في الأنا، فتلك الأنا لم تكن عاطلةً أمام هول المكتشف وفداحة الإجابة عن حتمية الفناء وكان الاشتغال الأخر على أساس الهم الجمعي مما عزز مداخلَها الجمالية في حدية وحدة اختياراتها بين قصيدة وأخرى بتأكيد تعاطفها ثم خوفِها ثم قوتِها أمام قوى الطبيعة، فتارة تكون نداً وتارة ملهمة لتلك القوى لتصل صيرورتها الأخرى في هذا التشاؤم ألا وهو "الخوف من الحياة"، ولم تكن حدود ذلك الخوف خوفاً أسرياً أو خوفاً اقتصادياً أو عارضاً جسدياً أو إيهاماً نفسياً سطحياً أو فقراً علمياً فلم تكن هذه العوامل هي التي أثرت بؤسها الشخصي أو إن إعجابها بالفلسفة الألمانية وبالمتشائم شوبنهور قد وضعها في دائرة التعقيد.
إن كشفاً لأعماق ذلك الحزن رأت فيه أنها "امرأةٌ لا قيمة لها" وهذا ما أشارت إليه في قصيدتها المعنونة بذلك العنوان لتطويع قبولها السلبي للأشياء التي لم تصل إلى تفسيرها لعدم معرفة إجابات عن أسئلتها عن موقع الإنسان من الكون وسر الوجود وألغازه ليصبح ذلك الهم وذلك الإثم صديقاً لا مفر منه فهي قد كتبت له مرة تقول:
مهدي ليالينا الأسى والحرق
ساقي مآقينا كؤوسَ الأرق
نحن وجدناه على دربنا
ذاتَ صباح مطير
ونحن أعطيناه من حبنا
ربتَةَ إشفاقٍ وركناً صغير
ينبضُ في قلبنا
فلم يعد يتركنا أو يغيب
عن دربنا مره
يتبعُنا ملْ الوجود الرحيب
يا ليتنا لم نسقه قطره
ذاكَ الصباحَ الكئيب
وتراها ثانية تعمق الدلالة بالاستفسار والبحثَ عن أعذار لألمها هذا:
من أين يأتينا الألم
راعي خطانا من قدم
وسقي قوافينا
إنا له عطشٌ وفم
يحيا ويسقينا
نتائج هذا التشاؤم
أنها أوجدت مكانها القصي الذي حلمت به ومنحها التوافق وعزلتها الشعرية أي تفرداً عن الأخرين من أقرانها الشعراء الذين تناولوا هذا الموضوع من زاوية أخرى وضمن هذه الفلسفة كان شأنها شأن "أفلاطون ــ الفارابي ــ دانتي ــ شيشرون" الذين بحثوا عن مدنهم الفاضلة بعيدا عن المكر والقهر والخديعة، وثانيا إن تشاؤمها وسيلة أمان واستقرار لبعدها النفسي المنتج والذي ترك أثراً واضحاً في دلالاتها العاطفية أي أن نوعاً جديداً من التغريب قد أُضيف إلى قدراتها في تحريك لغتها الشعرية أما المحرك الثالث فإن يأسها هذا قد لامسَ السعادة في الحياة واعترفت بوجودها وإن لم تعشها فأتت الدفعات الشعرية بعد هذا الاكتشاف بجوهرٍ جديد تجاوزت فيه مفاهيم "كامو ــ سارتر" لمعاني العبثية كما ألغت فكرتها عن الأحلام التي كانت تخشاها وتفر منها وتجد أن لا خلاص منها سوى بالموت ولا شك في إعجابها بفلسفة شوبنهور ولكن فلسفتها التشاؤمية ليست فلسفة منقولة أو تجديداً لفلسفة بدليل التلازم الدقيق ما بين مؤثراتها النفسية وخصوبة عطائها الشعري لذا فان الحدث عندها ليس إيهامياً بل عاد واستند إلى قواعدها في تصنيف الزمان والمكان والذي يغذيهما حسها الموسيقي وطرائقها في الطرق على آلتها التخيلية.
كما ظهر فعلُ تشاؤمها وهذا هو المحرك الآخر في بعض آثارها النقدية وهو ناتج مضاف حين تناولت بالنقد موضوع الحب والموت في زمنين بعيدين من حيث تناول هذين الموضوعين لدى "ابن الفارض وإيليا أبي ماضي". ولعل أهم المغذيات لنتائج هذا التشاؤم إن أخرجت اليوتوبيا كونها ليست فعلا خياليا فقط وإنما هي الفعل الذي يدفع باتجاه إنسانية جديدة.