ادب وفن

التغرب والافتراض والواقع / عبدالهادي الزعر

قيلت ولازالت مقولات كثيرة عن التغرب، ولكن أنسبها قربا هي التي تصف المتغرب بالانسلاخ عن المجتمع والعزلة والعجز عن التلاؤم فيمسى الكائن غريب عن ذاته.
ثمة مظاهر لمفهوم التغرب في التاريخ نوه عنها افلاطون وأوغسطين، كما أثيرت في القرن الثامن عشر على يد بيرك وكانط، عموما التغرب مصطلح واسع وفضفاض فهذا بلاشار يحلل شاعرية المكان حين يكون مليئا بالشجن ومفعما باللقاء والوداع.
لقد كان الانسان جزءا من الطبيعة ومن الارض، ولكن تراجعت تلك الجزئية بنشأة المجتمع الصناعي وتدهور المجتمع الرعوي، ولو بحثنا عن التغرب روائيا فسنجد دستوفسكي قد كتب رواية «مذكرات من تحت الارض» وهى تدور حول متقاعد يروي ذكرياته الجميلة التي يعتد بها حين كان موظفا مرموقا في الدولة، ثم يشعر بعدها أنه ضئيل غير ذي شأن، وبحكم تقدمه في العمر واحساسه بقسوة الحياة وعجزه عن لقاء الاخرين تسببت له فجوة وشرخ كبير بينه وبين مجتمعه، وهو سبب جعله متغربا رغم انتمائه لمجتمع كان فاعلا فيه!
ولم يمر وقت طويل واذا بالكاتب الامريكي «ريتشارد رايت» يكتب قصه على غرار رواية دستوفسكي ولكن بأسلوب اّخر،
تحكى عن زنجي يهرب لاتهامه بجريمه لم يقترفها وحين يحس أنه على وشك الوقوع في قبضة مطارديه يختبئ في حفرة للمجاري بعيدا عن المجتمع الذى يطارده، فهو أسير أفكاره وهذه الحفرة هي التي يشعر فيها بالأمان، واذا أمعنا النظر نجد «فرانز كافكا» في روايته القصيرة «المسخ» يتناول نفس الموضوع بأسلوب رمزي حيث يتحول البطل الى حشرة كبيرة يأنف منها أفراد عائلته فينبذونها فتضطر الى الاختفاء، وتلك فلسفة قيل عنها الكثير حيث تتضاءل الحياة وتنكمش.
الافتراض الذي أوجدته وسائل الاتصال الالكترونية الحديثة ساهم في تغيير أساليب التفكير وأنماط المشاعر وطرق التعبير عنها، صحيح انها وفرت امكانية التبادل الفكري وتداول المعلومات بسرعه فائقة افتقدتها الأجيال السابقة، مقربة البعيد حتى لو كان في أقصى الارض، فصار الانسان «مواطنا عالميا»، وتلك السورة المعلوماتية قضت على النأي وارتأت تخطي الحدود بيسر، ولكنها رغم فوائدها الجمة أظهرت العلاقات «اللا شخصانية» فالكائن بات «هلاميا»، ليس له حدود معلومة إلا بين من يعرفه عن قرب من بنى جلدته، والحياة بأثقالها المتزايدة جعلت الازمة راسخة، وتركت الانسان ومبادءه وتطلعاته الى المجهول، فما برحت معاناته تزداد يوما بعد يوم، حتى جعلته متغربا بلا ذنب!