ادب وفن

مصادر الشاعر.. "مدوِّنات ذاكرة الطّين" انموذجا / قراءة: داود سلمان الشويلي

في كثير من الاحيان يطرح قول الشعر مجموعة من الاسئلة التي تتناول بعض الظواهر التي تخوض غمارها القصائد ، وهذه الاسئلة تحتاج الى اجوبة لدراستها لو طرحت على المهتم بدراسة الشعر.
وقد طرحت المجموعة الشعرية للشاعر علي لفته سعيد "مدوِّنات ذاكرة الطّين" مثل هذه الاسئلة على ذائقة المتلقي، السامع والقارئ والدارس ، لتحظى بإجابة ما ، من الدارس خاصة، لتفتح امام المتلقي الخاص والعام افاق واسعة امام ذائقته في استقبال الشعر .
ومن يقرأ المجموعة الشعرية "مدوِّنات ذاكرة الطّين" يرى ان جميع القصائد يمكن ان تكوّن قصيدة واحدة ، وطويلة ، وهي عبارة عن بوح الشاعر علي لفته سعيد الذاتي لامرأته ، هي امرأة القصيدة ، ومن خلالها الى الوطن ، او الانسانية ، وهي - أي القصيدة - لا تكرر نفسها على الرغم من تكرار بعض الالفاظ المستخدمة فيها ، وهذا التكرار يأتي لينشئ صورا شعرية جديدة ، انه تكرار ابداعي يلون القصائد ، القصيدة الطويلة ، بلون مختلف عن الوان الشعر الاخرى .
***
من هذه الاسئلة التي تطرحها القصيدة الطويلة التي تحمل عنوانا رئيسيا هو "مدوِّنات ذاكرة الطّين"، المجموعة ، ما هي المصادر التي اتكأ عليها الشاعر؟ وكذلك عن استخدامه لغة، واسئلة أخرى لا مجال لذكرها الان.
فعن المصادر التي اعتمدها الشاعر ، يتبادر الى ذهن المتلقي والدارس اسئلة منها :
- اتخاذه مزامير داود اسلوبا في قصائده ، اذ انها بوح ذاتي لامرأة الشاعر عن امر ما ، مثل مزامير داود في التوراة .
- اعتمدت على بعض الاساطير ومنها التي وردت في التوراة .
- تأثر الشاعر بآيات من القرآن.
"مزامير داود" هي تسابيح لله، وأناشيد حمد وسجود وتمجيد له، ويرى البعض من الدارسين الاثر البابلي والاشوري الحكيم الاشوري "احيقار" فيها واضحا وجليا .
يقول الشاعر في قصيدة "مسلّةٌ لمساءِ الحُروف":
* لا تمْضين لي
إلا وأنتِ حاملةَ نعْش آخر دمْعةٍ
وأنتِ تحْملين آخرَ ورْدةٍ على لمْعةِ جيدكِ
وأنتِ تسْمحين للْحروفِ أن تُغادرَ صنْدوقَ خجلِها
لينْطقَ بيْن أعْلى النّهْر والسّرّة الموْصوفةِ بالرّقْص
وأنتِ تحْملين كأسَ الثّلْج المُعطّر بلزوجةِ الفرْدوس
وهو يغنّي نَشيد اللّذّة من ألف عام .
هذا البوح الشعري هو ما قدم لنا صورة لامرأة يخاطبها الشاعر بكلماته تلك. اما الشاعر ، صاحب مجموعة "مدوِّنات ذاكرة الطّين" ، فهو كما قال في قصيدة "أناشيدُ الدّفاتر":
* الطّيْرُ الذي حطّ على رابيتيْنِ.. بعْدَ الخمْسينِ
فهو يعرف اسرار قلبها.
انه البوح الشعري الذي يشبه البوح الذي في مزامير داود عندما يخاطب ربه ، الا انه يختلف عنه في انه غير مصاحب لالة موسيقية كما تذكر اغلب المصادر التي درست المزامير ، ان كانت هذه المزامير من نسج التوراة ، او كانت في مصادرها الرئيسة ، مثل الادب السومري والاشوري والبابلي.
يقول الشاعر:"بي بوْحٌ ولكِ صمْتٌ"، انه كالمجنون يبوح لامرأته "القصيدة الاجمل" التي وضعها كما يقول في قصيدته "أنتِ حينَ حوّركِ الطّين"، انه يعرف اسرار قلبها.
ان قصائد المجموعة التي تشكل قصيدة واحدة هي غناء لها ، لامرأة الشاعر ، هو وهي فقط ولا ثالث بينهما ، اذ انها تمثل كل شيء عزيز عليه.
***
- تستخدم قصائد مجموعة "مدوِّنات ذاكرة الطّين" الشعرية آيات القرآن كمرجع لها ، وتصيغها صياغة جديدة ، من حيث اللغة ، والافكار التي تحملها ، وكذلك الصور المرسومة بالكلمات ، كما يقول الشاعر نزار قباني في قصيدته " الرسم بالكلمات ".
من ميزات النص القرآني " بنيته اللا خطية " التي هي أقرب ما تكون إلى شبكة متفرعة من المواضيع ، ويتصف اسلوبه بالإثارة ، والانفعال الواضح ، فكانت قصائد علي لفته سعيد في هذه المجموعة الشعرية قد صيغت صياغة جديدة ، انها صياغة المخيلة الشعرية ، فكانت قد اتت بأفكار جديدة ، وصور شعرية جديدة ، واضحت بنيتها لا خطية ، الا ان الموضوع العام موحد ، واسلوبها منفعل مولدا الدهشة و الاثارة .
هذا واضح جلي في : قصيدة "كي" وسورة "النساء" ، وقصيدة "أمّي الميّتة والحرْبُ تسْتمر" وسورة "مريم"، وقصيدة "تمرينٌ على نوافذِ العشْقِ" وسورة "الانفال"، وقصيدة "وما سالَ حين نوَيْت" وسورة "الانفال"، وقصيدة "سواد للبياض" وسور:" النمل ومريم والصافات"، وقصيدة "أتْعبني الغناء" وسورة "الانفال"، وقصيدة "أتْعبني الغناء" وسورة "مريم"، وقصيدة "قصب الجنوب" وسورة "المائدة" ، وقصيدة "للبحْرِ رمْشةُ عيْن" وسورة "البقرة" وغيرها كثير.
لقد جاءت صور الشاعر في قصائده تلك التي تناصت مع آيات القرآن، بأفكار جديدة ، اذ بنت لها اسلوبا في تقديم الصور الشعرية في القصيدة يختلف عنه في القرآن.
ان التناص الحاصل بين قصائد الشاعر وآي القرآن هو من نوع التناص "الامتصاصي" ، اي الذي لا ينفي الاصل بل يبقيه قابلا للتجديد.
***
امتازت لغة الشاعر في هذا الديوان بالتكرار الابداعي، ذلك التكرار الذي ينتج صورا شعرية عديدة ومتنوعة ومختلفة.
إذ جاء بعض الاستعمال المتكرر للألفاظ بصور شعرية جديدة ، مثل تكرار لفظة:
- الطين :"أنتِ حينَ حوّركِ الطّين"، "ربّما وشايةُ الطّين.. تجْمع لي حصاة حزْني"، " إن غنّى الموّالُ في نايات الطّين"، "ضعيفٌ هو كلّما مرّ على ذاكرةِ الطّينِ، "عافيَةَ الطّينِ"، "العنوان" وغيرها من الالفاظ المكررة ، وهذا ليس معناه ضيق افق قاموس الشاعر اللغوي ، بل معناه قدرة الشاعر على اعادة الالفاظ وتكرارها من جديد بشاعرية جديدة ، وبصور جديدة ، وافكار جديدة .
***
تستدعي مناجاة الروح عند أي انسان الوصول الى الحالة الصوفية الاشراقية ، وفي اللغة يستدعي ذلك ضمير الانا المتكلم لكي تصل المناجاة ذروتها في القصيدة ، وقد كانت القصيدة الطويلة " مدوِّنات ذاكرة الطّين " قد فعلت ذلك ، اذ تأخذ بيد المتلقي لتوصله الى حالة الانتشاء الصوفي الاشراقي
ومن خلال اثنين واربعين نصا منفرداً كتبها الشاعر علي لفته سعيد ، قدم فيها مناجات روحية لحبيبته التي تمثل عند الشاعر رمزا لشيء ما يضمره في نفسه ، فالحبيبة هي المرأة ، وهي الوطن ، وهي الانسانية