ادب وفن

احمد خلف: قراءة الواقع والنبوءة في رواية (موت الأب) / احمد عواد الخزاعي

ترددت كثيرا وأنا أحاول كتابة قراءتي النقدية هذه عن منجز أدبي لقامة كبيرة من قامات الأدب العراقي المعاصر، لكن الذي شجعني على ذلك، القيمة التاريخية الكبيرة التي حملتها الرواية، وشخصية الروائي احمد خلف المتواضعة إلى حد كبير حين التقيته في لقاء عابر في شارع المتنبي.
ليس مصادفة أن يضعنا الروائي والقاص احمد خلف أمام أحداث روائية تحمل مقاربات كبيرة وحميمية مع واقعنا السياسي والاجتماعي العراقي ، كان الزمن كفيل بإتاحة الفرصة لنا في معايشتها، في رواية (موت الأب ) التي صدرت عن دار الشؤون الثقافية في العراق عام 2002 استطاع الروائي فيها من قراءة الواقع العراقي بطريقة تنم عن امتلاكه لسعة أفق كبيرة ، وإخضاعه البنية الاجتماعية العراقية في زمن الحروب والحصار الاقتصادي وتداعي مفهوم الدولة إلى مشرطه الفكري والمعرفي، وقيامه بعملية تشريح دقيقة للكم الهائل من المشاكل السياسية والاجتماعية والنفسية التي نخرت المجتمع العراقي كنتاج طبيعي للحروب والأزمات التي لازمت تاريخ العراق الحديث، وقيامه باستشراف المستقبل عبر نبوءة سياسية خطيرة كان تحتاج للبوح بها إلى شجاعة كبيرة من قبل الروائي، وكان من الصعب لهذه الرواية أن ترى النور في العراق واجتيازها للبوابات السوداء التي كان يضعها النظام السابق بوجه أي منتج أدبي ومعرفي، ما لم يتلاءم مع المنظومة الفكرية له، إلا إن استخدام الروائي لأسلوبي الرمز والتورية كوسيلتين لإيصال رسالته الفكرية والإنسانية إلى المتلقي، مكنتها من ذلك.
تميز الإطار العام للرواية بالعمق والتعقيد عبر انتقالات سريعة ومفاجئة في السرد، باستخدام الروائي تكنيكا جديدا على الرواية العراقية، تتداخل فيها الأحداث وتتشعب، ويتعدد الرواة داخل النص الأدبي، بطريقة تحتاج إلى قراءة دقيقة وبتمعن، لكنه استطاع تسخير كل هذا لخدمة الثيمة الرئيسية التي ارتكزت عليها الرواية، وذلك بتناوله لمجموعة من الأشخاص يتحركون ضمن حيز اجتماعي بسيط ذات طابع سلطوي يهيمن عليه الأب ( القائد الأوحد) الذي كان رمزا واضحا للرئيس آنذاك، مكنته شخصيته الجامحة والغير منضبطة من التحكم بمصير عائلته الصغيرة (الأم، الابن إسماعيل، الابن الصغير) لتتعدى هذه السطوة لتشمل أخيه نوح وبعض سكان النزل الذي كان يمتلكه، والوصول بالبعض منهم إلى نهايات مأساوية ، دفع ثمنها هو لاحقا.
تبدأ الرواية بتقنية سردية غاية في الحرفة والجمال، باستخدامه الوصف الدقيق والتفصيلي لعنصر المكان، ليدخل القارئ عنوة في الجو العام لها، وللتمهيد للانفعالات النفسية والإشارات الدلالية للحوار اللتان سترافقان حركة الأبطال داخل النص الروائي، ينتقل بعدها لإبراز العنصر المهم في النص بوصفه لتمثال الذئب البرونزي الرابض أمام منزل الابن والمقاتل الروماني الذي يصوب إليه الرمح، ليفتح مخيلة القارئ أمام أفق واسع في تصور دلالات هذا المشهد، الذئب الذي يعيش في حالة خطر داهم وهو ينتحل صفة حماية الدار، ليفصح عن ذلك على لسان الصديق الذي اندهش لرؤية هذه البانوراما الغرائبية ( متى كانت الذئاب حامية للديار) لينسحب هذا الصراع بين الذئب والمحارب الروماني على حقيقة الحرب التي عاشها مجتمعنا وماسيها ..(غير أن الحرب هي الحرب في كل مقاساتها، لا يهمها غير الطعن والمناوشة، الكر والفر، الهزيمة والانتصار، الفوز بركام الدمار والخراب والجوع، سواء بالسيف أو المنجنيق يدك البيوت ويهدم سقوف الجدران ، ليترك ورائه عويلا لا ينتهي وصراخا ينداح في البرية لعشرات السنين).
كان لهذا المدخل الفلسفي والإيحائي للرواية، أن يجعل من القارئ معرفة أي نصا أدبيا قد ولج وعليه أن يكون حذرا في تعاطيه مع أحداثه الدراماتيكية التي ستبدأ بلقاء بين الصديق الصحفي والابن الذي تعمد الروائي عدم الإفصاح عن اسمه إلا في إشارة خاطفة قد تحمل بعدا دينيا حين نادته طفلة صغيرة في لحظة عابرة باسم (يوسف)، والإشارات الدينية نجدها قد تكررت في النص في مواضع عدة من خلال بعض الآيات القرآنية التي رافقت السرد، ورمزية المسجد في قصة الكنز التي رواها لهم العم نوح، وهذا أمر طبيعي، كون لا يمكن تجريد الكاتب من محيطه البيئي والديني الذي يفرض نفسه عليه.
هذان الصديقان اللذان تربطهما علاقة طارئة حين التقيا عند في مرسم صديقهما المشترك (عادل بيكاسو) تلك الشخصية المستفزة والمتمردة على واقعها الاجتماعي نتيجة كم هائل من خيبات الأمل التي عاشها منذ صباه بسبب الفقر، والذي جعلته محبطا يعاني من الفشل العاطفي والانزواء الاجتماعي، لتتحول حواراتهما القادمة إلى نافذة يطل منها القارئ على سير أحداث الرواية، حين يطلب الابن من صديقه كتابة قصة حياته منطلقا من عقدة أبوية سلطوية طغت على المشهد العام للنص، الأب الذي عبر عنه الابن (الأب الجاني والأب الماكر والأب الذي لا نحسد عليه)، الأب الذي كان يتلصص عليه حين كان صغيرا وهو يمارس الرذيلة مع سارة الحفافة إحدى نزيلات بيتهم القديم، ويسكر حد الثمالة ويتبول على جدران المنزل ويعامل الجميع بحدية وانتقاص، هذه العقدة التي انطلق منها الابن الذي كبر وأصبح تاجر تحف ثمينة فيما بعد ليروي قصته إلى صديقه، التي تمثل قصة شعب بأسره عاش تحت وطأة الطغيان والاستبداد، على ركام هذا الواقع المرير أسس الروائي احمد خلف نبوءته التي أفصح عنها في نهاية روايته.
في أحداث مضطربة كانت تمثل القاعدة الرئيسية في العلائق الاجتماعية التي ربطت أفراد أسرته ، الأم الصامتة في اغلب الأحيان المغلوبة على أمرها، إسماعيل الابن الأكبر الفتى الوسيم الذي أراد أن ينتحل صفة الأب، العم نوح ذلك الضيف الثقيل على الأب، الذي عاش معه في صراع ناتج عن تنافس غير معلن على محبة الأم والأبناء، ليصل هذا التداعي إلى ذروته حين يختفي الابن إسماعيل مع سارة الحفافة إلى الأبد ويقرر الأب بعدها الزواج من ساهرة المرأة التي تتفجر أنوثة ، رمز السطوة الأنثوية على الذكر، لتغادر الأم المنزل وتنفصل عن الأب وتتزوج من العم نوح فيما بعد، لكن الابن الراوي في خضم كل هذه الأحداث يبقى الطرف الأضعف في المعادلة، بعد أن يقرر الأب الاحتفاظ به ليعيش حالة من الحياد، التي أكد عليها الروائي في أكثر من موضع في الرواية، (الحياد) الذي رافق الأغلبية الصامتة من الشعب العراقي في ظل النظام السابق طلبا للسلامة، ( كانت نظرتي فيما مضى إلى البيت نظرة محايدة).. وفي إشارة أخرى نجد في رواية الصحفي الغير مكتملة التي كتبها داخل النص الروائي عن الواقع الاجتماعي السيئ الذي كان يعيشه العراق في ظل الحصار الاقتصادي، في محاولة من الروائي احمد خلف في الإفصاح عن ذلك بصورة غير مباشرة باستخدامه تقنية تداخل النصوص السردية ضمن متن النص الروائي، وفي حوارية بين هاجر الطالبة الجامعية ابنة خالة الصحفي امجد توضح خطورة الانحطاط الفكري والسلوكي لبعض أبناء المجتمع العراقي نتيجة هذه التجربة الصعبة التي عاشوها، حين تروي له قصتها مع صديقتها وتحولها إلى بائعة هوى ( ومن الممكن أن تكون قد خطت خطوتها تلك لكي تعرف فيما إذا كنت أحبها أم إني انظر إليها بحياد)، كان يرافقهم في هذا المشهد صبية يتنازعون على الكرة واحدهم جالس ينظر إلى الجميع نظرة حياد،
وفي عودة للنص الروائي الرئيسي يروي الابن لصديقه الصحفي النهايات الدراماتيكية التي وصل إليها أفراد أسرته في ظل سطوة الأب، العم نوح انتهى به المطاف مقتولا على يد أخيه (الأب) في مشهد يحمل أبعادا منها مثيولوجيا، قتل الأخ لأخيه والطائر الشاهد الوحيد على أول جريمة في التاريخ الإنساني، ( ركض أبي ناحية حجر كبير ورفعه نحو الأعلى، كان عمي ينظر إليه وطيف ابتسامة نادرة تعلو محياه) وفي إشارة إلى الطائر(التفت نصف التفاتة نحو أخيه، كان عمي لا يبدي حراكا، عض أبي على شفته وامسك بذراعي وهرول بي لما رأى الطائر الكبير مرة أخرى يحوم في الفضاء المهجور من حولنا)، وقد تكون دلالة الطائر هنا تشير إلى نذر الحرب التي كانت تلوح في أفق العراق وبداية النهاية للرئيس، والعم نوح إشارة إلى القوى الناعمة التي سحقها النظام ، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار إن هذه الرواية كتبت بين عامي (1995-2000) كان فيها العراق على شفا حرب مدمرة وحصول تداعي كبير في البنية الاجتماعية والسياسية له، حتى أطلق الروائي على هذه الفترة بزمن الحيوانات، في حوار بين الابن وصديقه (لقد عشت معه زمن يليق بالحيوانات)، وفي موضع آخر ( ستكون شاهدا على زمن الحيوانات)، إشارة إلى حالة التدجين القسري التي مورست على الشعب العراقي آنذاك.
يسجن الأب خمسة عشر عام على جريمته هذه، يخرج بعدها وقد تلاشت سطوته وجبروته بين طيات المرض والتجربة الصعبة والمريرة التي عاشها، وفي جلسة حوار روتينية بين الصديق والابن في منزله الفخم، يدرك الصديق أن اليد النحيلة البيضاء التي كانت تمتد إليهما لتناولهما الشاي والقهوة وقطع البسكويت كانت يد زوجة الأب (ساهرة)، وان رجلا يقبع في إحدى غرف المنزل المنزوية بين أثاث شبه مستهلك كان الأب ( تنفست هواء الغرفة الرطب البارد إلى حد ملموس، فوجئت بسعة المكان، كان الجسد يلتئم على سرير نظيف الفراش وسط مجموعة من الثريات والتحف القديمة الشبه مستهلكة)، ليتشبث الأب (الرئيس) برمز سلطته الآفل (الكرسي) حين ينهض من سرير تحت مراقبة عيني ابنه وصديقه ويرتمي على الكرسي الذي بجوار سريره ( ودون أن يفتح فمه، القي بجسده على اقرب كرسي، اخذ نفسا طويلا من سجارته وقد تأملني مليا)، نهاية مثلت نبوءة لكاتب عراقي امتلك القدرة على قراءة الواقع العراقي قراءة موضوعية إبداعية، الموت الذي أشار إليه الروائي في عنوان روايته، كان موتا افتراضيا رمزيا، حين يتحول الأب (الرئيس) إلى جسد متهالك بين ركام أثاث عفا عليه الزمن.
رواية موت الأب للروائي احمد خلف هي تجربة أدبية أسست لمدرسة جديدة في الرواية العراقية حريا بنا أن نفتخر بها ونسلط عليها الضوء، لتتحول إلى ركيزة ثابتة يستند عليها جيل الروائيين الشباب.