ادب وفن

نهارات الليل..جمال الغيطاني في «حكايات هائمة» / مقداد مسعود

هل كتاب )حكايات هائمة( هو كتابة ثانية لكتاب )نزول النقطة) للمبدع جمال الغيطاني، أعني كتابة ثانية تمنح مهيمنة النص : قوساً أوسع..؟! الكتابان يشتغلان على كتابة الكتابة : حكايات الكتب ،كتاب الكتب ، مالم يُكتب، كتاب اللاكتب، كتاب الخاص، مالم يرد في كتب : هذه عينة من عنوانات فصول من كتاب )حكايات هائمة) حجم كتاب نزول النقطة لايتجاوز (79) صفحة أما كتاب حكايات هائمة فهو بسعة (505) صفحة..
وما أن يتوغل هيامي بأسلوبية الحكي اللذيذ التي برع بها منذ سنوات طويلة الغيطاني وتحديدا بتوقيت ) كتاب التجليات( بأجزائه الثلاثة، فنحن ثانية مع التناول الصوفي للوجود والموجود ، في حكايات هائمة وأنا اتوغل بين الصفحات ، كنت أرى روح بورخس كلما تكلم الغيطاني عن شخصية الكتاب ، كما شممت رائحة ظلال ألبرتومانغويل وكتبه الثلاثة عن الكتاب ) تاريخ القراءة) (المكتبة في الليل) (مع بورخس (.. لكن ميزة كتاب الغيطاني انه يتأرج بالبخور والزنجبيل والسلالم المتآكل المتربة والمتأرجة بروائح أرواح الاسلاف وهم يواصلون البث رغم انقطاع النظام الفسلجي لديهم .حين انتهيت من قراءتي الأولى للكتاب ، أغمضتُ عيني فأبصرني (الشيخ خربوش ) وأغدق عليّ من كنوزه في قلم الطير وغير الطير..(أنه أوتي القدرة على حفظ نصوص مفقودة، لا يتضمنها مخطوط أو مطبوع، يتلوها بالعلامات وما تبدل منها، يعيد الأمور إلى أصولها عبر الذاكرة../ 86)..سألته عن كتاب للشريف الرضي (مسائل التأويل في متشابه التنزيل) لم يصلنا منه سوى الجزء الخامس، قرأت نسخة من الكتاب في شتوة 1996 يشتغل الرضي على تفكيك النصوص ، قبل جاك ديريدا .،فإذا بالشيخ خربوش يمليه عليّ وفي الوقت نفسه يملي على رجل جاء من الصين ، (كتاب اللصوص ) للجاحظ ، لحظتها: (فرحَ بالصيني لأنه طلب ،،اللصوص،، بالذات، لم يسع إليه أحد وكان يخشى أن يفارق الدنيا ويمضي الكتاب معه، فلم يسع إلى تدوين ما يحفظه رغم أنه كثير، معظمه نادر../86)..ولا أقول كأنه بل حقا أن الشيخ خربوش، مكتبة ناطقة ، هو كائن كتبي محض، لكنه لايعرض كتبه في الهواء ولا يدفعها سهوا للآخرين..فالشيخ بمثابة أجوبة تنتظر أسئلة لتجيب عليها بالمرئي والمحسوس والملموس ..(فلم يسع إلى تدوين ما يحفظه رغم أنه كثير، معظمه نادر، ولا يعرف أحد كيف وقف على الأصول ولاكيف صانها في ذاكرته../86)..وقبل الشيخ خربوش، جرى ماجرى وكان أعظم ،أن الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي لم يدون حرفاً، بل(أملي عليه عند سفره من القاهرة إلى الحجاز../40) ثم أمره الصوت أن يقيم في برزخ بين البر والبحر، فأمتثل الشيخ(أوراقه بين يديه بيضاء، ناصعة خالية من كل علامة، السطور تتوالى لم تترك من البياض إلا هامشين، تمتلئ الورقة فتحل غيرها، أما المعاني فتأتيه ولاتخرج منه في عين اللحظة، هكذا أكتمل (فصوص الحكم)، أما كتاب الفتوحات المكية وبشهادة بن عربي..(أنه أُملي عليه أثناء طوافه الكعبة ،أيضا أنه تلقى من عين الصوت كتاباً آخر تقرأ سطوره من الجهتين فيتوصل إلى نفس المعنى، وتقرأ صفحاته من الآخر إلى الاول فلا يجد من يقرأ مشقة في الاستيعاب، غير أن الخفي أمره ألا يُظهره إلى الناس، فما ورد فيه لن يستوعبه ، إلا نفر محدود ممن وهبوا الأفهام../40)
(*)
السلطة كانت تتحصن بالكتبة ، تستعملهم كقوة حصانية لتوسيع الخرائط وبسط النفوذ ، لذا تخلصت الخلافة العباسية وهي في سنواتها الاولى من عبدالله بن المقفع/54اللافت للنظر ، أن الغيطاني يحاول أن يثبت بالبحث الوثائقي أن (كليلة ودمنة) من تأليف ابن المقفع وليس من ترجمته وهذا الامر بالنسبة لي كقارئ أقول ان هذا لايعني ان كتاب(كليلة ودمنة) لا يتغذى من نصوص هندية وفارسية وكذلك حكايات إيسوبوس الحكيم* اليونانية التي تسرد الحكمة حكائيا ..وتناول الغيطاني الإشكالية الثقافية يأتينا ممزوجا بين ذكرياته مع الكتاب (عرفت الكتاب صبيّا في طبعة أصدرتها وزارة المعارف العمومية خلال الاربعينيات، وجدتها في مدرسة الحسين الإعدادية التي كان اسمها محمد علي قبل الثورة المباركة وتقع عند ناصية حارة الوطاويط التي كانت مسقوفة بالحصير، وعندما تزايدت الوطاويط وعطلت مرور الخلق أزيل السقف وكان فريدا لم أعرف مثيلا له في موضع آخر../54) نلاحظ كيف تتشابك خيوط الذكرى في الاستعادة فالمؤلف لا يستعيد الكتاب وحده، بل المدرسة ، ويثبت مرحلتين من تاريخ مصر، من خلال أسميّ المدرسة نفسها، وحين يخبرنا عن الوطاويط ( تزايدت...وعطلت) بالنسبة لي كقارئ ستنفتح شاشة سينما الوطن الشتوي في البصرة وتنطلق طيور هتشكوك من الشاشة وتغمر الصالة ويضج صراخ الفتيان والأكبر منهم..!! ..ثم يحدثنا الغيطاني بعد سنوات سيقوم بشراء(..طبعة أنيقة، مجلدة، رسومها رائعة../55) ثم تبدأ الأسئلة الشاقة..(الكتاب وُضع في الهند، مَن كتبه ؟ لا توجد إشارة محددة لشخص بعينه..) ويستمر بحث الغيطاني فيستند على ابن النديم في كتابه الفهرست( وأشار إلى كليلة ودمنة كموضوع لحكاية وليس مؤلفا مستقلاً بذاته../58)..الذي يهمنا ان الخلافة العباسية في عهد المنصور الدوانيقي ، شنت حملة مكارثية على المثقفين بحجة الزندقة، فأحرقت الكتاب والكاتب في تنور مسجور..!! تقنّع ابن المقفع بالترجمة ،أعني نسب كتابا من تأليفه لغيره، لكن القناع خان الوجه.هناك من تلفت طويلا، وتوجس عميقا وهو يتقنع بقناع تسموي، كما سيفعلها الناقد العظيم باختين في النصف الاول من القرن العشرين، وكما سيفعلها مؤلف رواية (عالم صدام حسين) وهي من أعظم الاعمال الروائية العراقية والعربية ، وهنا اتساءل كقارئ دؤوب من هو مهدي حيدر؟ المثبّت أسمه كمؤلف لرواية (عالم صدام حسين) ؟! وكم من المؤلفين اندسوا في لسان شهرزاد زاهدين بأسمائهم وعنواناتهم الحقيقية ، وكم مثلهم اندسوا، في محبرة الروائي الفرنسي موريس لبلان ،مخترع شخصية أرسين لوبين، الذي لم يكتب (إلا سبع قصص معدودة../93)!! وبقية المكتوب السردي من روايات وقصص: (موضوع من عرب محترفين وغير مترجم../93)..
(*)
البعد شرط الإحاطة : وأعني بذلك أنك لن ترى اللوحة الفنية، ووجهك في وجهها، عليك اجتراح مسافة ذوقية ، حتى تقدر العين ، على استنساخ التفاصيل وتثبيتها في ذاكرتك، وكل ذلك كمحاولة أولى للإمتاع والمؤانسة، وهي غواية / فتنة بصيغة رؤية .والبعد شرط الإحاطة، يجترح مسافة ضرورية بينك والحدث، حين أتأمل الجنائن المعلقة أرى سرد الأنثى الملكة وتحديدا أمالي الملكة على بعلها الملك العبد المفتون بشهوتها في استعادة كريمة لجغرافيتها الجبلية الأولى...عشق فاتك ممزوج بعرق ودم سجناء وأسرى ومساكين أقدارهم تبلبلت في بابل العبوديات .
(*)
وإذا كانت الكتب تطوى طي السجل، فأن البيهقي السمرقندي يخبرنا في(خلاصة المواقيت) أن السلطان محمود أفضى برغبته المعرفية إلى وزيره رضا خسرواني، فهو يتمنى (كتاباً يقرؤه في الصباح فيتوصل إلى معان، يعيد قراءته في المساء، بعد غياب الشمس وسدول الليل فيجد مضمونا متغيراً تماما، كتاب إذا تم استيعابه تنمحي سطوره وتعود صفحاته ناصعة، كتاب إذا قرئت سطوره يُسمع صوت يلفظ ما هو مكتوب، كتاب إذا نُقل إلى لغة أخرى لا يبقى منه معنى، قال إنه يتمنى كتاباً يرحل مع الرياح، كتاباً يُقرأ بلا حروف، آخر يطالعه الضرير../92) يستمر السلطان محمود في يقظة ماء أحلامه، يميل السلطان إلى الأمام، يرفع أصبعاً محنناً نبره (يرحل مع الرياح، ينتقل مع النسمات..هل هذا على الله ببعيد ) أمنية مثل هذه مشروطة بالتقدم العلمي ، أمنية محلوم بها من قبل السلطان وغير السلطان، أمنية تتحقق حين (يمتد عمرك ألف عام، فتقف على كل ما رغبت من كتب مستحيلة الآن..الآن يا مولاي../92) وها هي الآن بين أيادينا، فكم نسبة الاستعمال الصحيح لهذا الكتاب المتعدد الثر؟ كم نسبتها في المجتمع الشبكي ؟! ومثلما السلطان محمود، أفضى بأمنيته لوزيره الخسرواني، كذلك سيفضي سيد الارضين لحكيم الوقت (ألا يمكن التوصل بطيور تحلق إلى الأبد، تظل أجنحتها مرفرفة، لا تقتات ولا تهن؟ ./176) مثلما حققت التقنية المعرفية أمنية السلطان، فأن مخيال التلوين سيحقق الثانية في غرب أبيدوس وتحديدا في منزل ملايين السنين ..لم يستخدم تحوتي فرشاة ولا ألوانا..(راح يصقل الجدار مستخدماً أدوات غير معروفة صممها وصاغها خصيصا.../178)
(*)
للكتب أحيانا ذاكرة متعالية عن البشري، والسؤال هو مَن القارئ: السماء ..؟ النجوم ..؟المركبات الفضائية ..؟الكائنات اللا أرضية :ستقرأ هذا الكتاب الكبير الواسع المفتوح في الهواء لمئات القرون..حيث يذكر المؤرخ المقريزي (أن الهرم الأكبر كان مغطى بطبقة من الحجر الجيري عليه كتابة هيروغليفية، مُذهّبة فإذا أشرقت الشمس تبرق الحروف حتى لتُرى من مسافة قصية قيل إنها تبلغ مسيرة يوم../37) وهنا يمكن القول ان الأهرام عبارة عن موسوعة نصوص حجرية، فنية، سردية، متاهاتية وغير ذلك ولا يسعنا إلاّ أن نردد مع الغيطاني..(أي كتاب هذا شغل تلك المساحة الهائلة لا يمكن القراءة إلا عن بُعد، لو اقتربت لا يمكن الإلمام إلا بكلمات محدودة../ 38) هذه السرود الفرعونية، المتعالية في تموضعها، بمخيلة شبه علمية ، كأنها خطاب حواري مع كائنات غير أرضية ..ومحاولة في فك هذه الشفرة المغلّقة
محض : ثلمة تأويل ..!!
(*)
يتضمن كتاب حكايات هائمة ، مقبوسات( كتاب الخاص/ 60) حكايات صينية..(138- 141) وصفحات تستضيء بمقاولات بسكال، كونفوشيوس وتصحيح معلومات خاطئة ، حول كتاب (كليلة ودمنة/ 54) و(كتاب الموتى/ 83) وثمة وقفات باذخة مع الحكمة الفرعونية وشذرات صوفية لابن عطاء الله السكندري/ 123 و(بيت هائم/ 353) أعني بيت شعر لأمرؤ القيس أو(أبو العلاء) وأقوال مأثورة..وحكايات لا تتوقف عن الهيام..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*جمال الغيطاني/ نزول النقطة/ دار كتاب اليوم/ القاهرة/ 2009
*جمال الغيطاني/ حكايات هائمة / دارنهضة مصر/ طبعة أغسطس 2015/
*رعد صادق الحلي / أيسوبوس الحكيم المظلوم/ دار الجواهري/ 2015