ادب وفن

دانـكـ حسن في كضبة ريح / لفته عبد النبي الخزرجى

يحرز الشعر الشعبي مزيدا من التطور في مفرداته ومضامينه، ويتقدم بخطوات واثقة ليكون أكثر قربا من حركة الثقافة والمجتمع، وليعبر عن قدرته في اللحاق بركب الحداثة والتجديد، ليصبح اشد التصاقا بقافلة التقدم، وفي الوقت نفسه ليكون مستقطبا لشعراء يمتازون بالحبكة والريادة، يستوعبون المفردات ذات النكهة الشعبية المطرزة بعبق الموروث الشعبي المتأصل في الحياة الاجتماعية.
كضبة ريح.. عنوان القصيدة التي نحاول ان نعيد قراءتها، بما تضمنته من إيقاعات موسيقية ومفردات تسمو كأيقونات تطرز القصيدة وتضفي عليها لونا مميزا بنكهته وتألقه وطراوته وانسيابية القصيدة التي احتشدت في أبياتها،الميوعة والدفو والوشايع والمطاوي، والترافه وكضبة الريح..
مايع كد ترافه البيك
وبـكد الدفو الغرك شواطيك
الشاعر عبد السادة العلي في قصيدته "كـضبة ريح " التي اطلعنا على أبياتها في صفحة أدب شعبي من جريدتنا الغراء "طريق الشعب" العدد 226في 14تموز 2016، القصيدة طرزها عبد السادة العلي، بمقدمة اقتبسها من الشاعر" ادونيس ":
كان الحب مذ كنت، ماذا يفعل الحب اذا مت؟".
احد شعراء الديوانية القدامى، له بيت من الدار مي يقول فيه:
موش على حط مطواي.... غزلي انلعب بيه
يصبح مخلبص ليـــــش.... بالليل اصفيه؟؟
المطاوي والوشايع.. مواد الغزل.. وعندما يقول الشاعر:
يغازلني العشـك..
غزل الخواجي البيض
ويلفني.. وشايع شوك
خدرانه ابمطاويك
"الخواجي البيض " جمع "خاجية " وهي العباءة الرجالية البيضاء.. الغزل.. مع الخواجي البيض.. لا تنقصه سوى.. ان تحضر " وشايع الشوك " والتي عادة.. ما تكون.. مستقرة بمطاويها.. و( يغازلني العشج )..الغزل..بالفتح.. والغزل.. بالسكون.. والمفردة تحتاج الى بيان اعرابي ولغوي.. لكن الغزل في كل الاحوال.. يدغدغ اوتار القلب، كما يدغدغ خيوط الوشيعة.. وخاصة عندما تكون الوشيعة بيضاء لامعة.. والقلوب يسكنها الشوق.. ويؤرقها ويملؤها مزيدا من وجع وحزن وشوق..
دانك حسن:
تعبير لطيف جدا.. واستعارات موفقة.. واستدلال رائع:
يا دانك حسن...
الدانق... من الموازين.. كما يقول الشاعر..
بنينه اشباب للخطار يومن.... وما ندري عشانه اطغار يو من؟
يا دانك حسن..!!! ما اروع هذا الوصف، الحسن ليس له حدود في الموازين.. انه خارج اطار الوصف، وبعيدا عن حدود الزمان والمكان.. إنه "شكبان" من الحسن.. "شكبان" من الجمال.. " دانك من الحسن"..
يا دانك حسن..
لو غربت... بهداي
ما تدري.. ابكلب مجروح
كل شجات مرديك
• الشجات.. مفردة جميلة معبئة بأوتار الحزن والتحدي..
والمردي.. مغرزه.. في الطين.. لكن الشاعر أراد أن يعطي غرزة المردي "الشجات " لونا آخر أشد بعدا وتأثيرا وإثارة.. فهي تجوس خلال ندوب القلب.. وتسحق تلك الجروح وتدميها..
وهو كما قال الشاعر عبد الحسين الحياوي:
تجله، والدجى ياضه من أسناه
تبسم واخجل الكوكب من أسناه
رماني بسهم فتاكن من أســـناه
نفذ بأحشاي وأثـــــر سـكم بيه
• كضبة ريح.. هي الأخرى اختيار موفق ,وعنوان بديع. رغم ان الريح لا يمكن ان تكون في قبضة.. لكن الشعراء المجددين، تستهويهم هذه المفردات وتشدهم الى التمسك بها لإخراج القصيدة من طابعها الكلاسيكي، ومفرداتها الظاهرة التي ما انفك شعراء القصيدة،ذات السياقات الرتيبة، الانحياز لها، دون بذل الجهد المطلوب للتفاعل مع حركة التطور التي تشهدها الساحة الشعرية، سواء على صعيد التفعيلة او المفردة الشعرية او المضامين الإنسانية والاجتماعية او اللغة التي تطبع القصيدة الحديثة بلونها المتألق..
القصيدة كرست مفردات منتقاة بشكل مميز من قبل الشاعر، الذي أجاد كثيرا في رسم خريطة فنية لمفرداته، وهذا بطبيعة الحال، منح القصيدة، مزيدا من التألق وأضفى عليها روحا من الطراوة والإبداع والتميز.. ومع أن القصيدة كانت تشكل لوحة فنية مؤطرة بالرمز الحد اثوي وموشومة بعبق المفردات الأصيلة، إلا أننا قرأنا بعضا من السهو او الخطأ المطبعي:
عشرتنه شكوت..
نحن نعتقد ان العبارة هي "عشرتنه سكوت... انتحر بيها الصوت".
كذلك "شكلك ياعضد عكيد...
المفردة الجنوبية.. لا تقول عكيد.. بل "عجيد ": والعجيد.. ثمرة البردي وتظهر في اسفل النبتة، وفيها لمعان ومصقولة بشكل مدهش..
شكلك يا عضد عجيد!!!
كالولي الشماته اعليك
زايد ماي برديك...
إن هذا لا يعني ان القصيدة فقدت القها، او انحدر مستوى أدائها الرائع.. بل أنها ما تزال تحظى بالمزيد من التألق والسمو، لأنها ببساطة قد لامست شغاف الواقع الشفاف.. ومنحته فرصة الإبحار في شجون الزمهرير، حيث تضج الفضاءات بعواء بنات آوى. الا ان الشاعر تغمره أسارير الأمل.. وكما قال شاعر شعبي، من الفرات:
الك صفحة بدليلي وانت باهه
واريـــدن صده منك وانتباهه
نصد لطول شعرك وانتباهه
شبه شلال ويشع عذب ميه
الشاعر عبد السادة العلي، وفي قصيدته " كضبة ريح"، يناغي البردي والعجيد، والمردي وشواطي الهور، ويرسم وي شراع الريح..نغمات الجداول والكصب والزور" ويداعب أوتار الريح وهي تعزف لحن الشراع والصاري والمجداف.. إنها سيمفونية العشق، وأنغام الطيور، وخرير المياه المنسابة في جداول الأحلام وسواقي المحبة. وكما قال الشاعر راضي علي البيج.. من شيوخ الفرات الأوسط وشعرائها:
إجفوفك بيض يحلالي شذرهن
إجروحي خزنن كلي شذرهن