ادب وفن

جواد وادي والتسلل من "خروم" ملحمة جلجامش / ماجد الخطيب

يتناول أدب وادي الرافدين القديم موضوعات إنسانية عديدة مثل الحياة والموت والخير والشر والوجود والسرمدية والحب والحقد...إلخ، وهي ذات المواضيع التي تشغل بال الكتاب المعاصرين اليوم. بل ان الممكن القول إن الكتابة البابلية القديمة، والكتابة الشعرية الملحمية أساسا، لم تختلف كثيرا من ناحية البنية والعروض والايقاع عن شعر اليوم، بل انها قد تتماثل أكثر مع الشعر النثري الحديث من ناحية تخليها عن القافية.
بيد ان الشعر العراقي القديم له ما يميزه تماما عن الشعر الحديث، وخصوصا في الإطالة، والتكرار الممل للحكايات، والسرد، والديباجات التي تلخص الحكاية الملحمية في مقدمة كل عمل طويل. ربما وجد الشاعر القديم في هذه الخصائص ما يشوّق القارئ إلى النص، وما يذكره بالتهاليل والتراتيل، لكنه لا يبعث في قارئ اليوم غير الملل.
واعتقد أن خير ما فعله الكاتب والشاعر جواد وادي، المقيم في المغرب، وهو يمسرح ملحمة جلجامش، هو انه خلّص النص المسرحي من مزايا الشعر الملحمي القديم، التي تحدثنا عنها في الفقرة السابقة. وهذا ما يؤكده جواد وادي في مقدمته للكتاب الذي صدر في المغرب عن "استريا ايديشن" في مدينة اسفي. فالتكرار والإطالة والسرد والكشف عن الخاتمة، هي من أهم نقاط الضعف في البناء الدرامي، وفي كتابة الديالوج، وفي صياغة حبكة الأحداث. ومن الواضح ايضا أن الكشف المسبق عن نتائج الصراع، في أي عمل مسرحي، قد يخل بتسلسل الأحداث وصولا إلى ذروة العمل المسرحي، وقد ينفي عنصر المفاجأة في الكشف عن مصائر الشخصيات.
اعتمد جواد وادي، كما يقول هو في المقدمة، على كامل عناصر الملحمة وأحداثها، ولم يخرج عن إطارها، إلا نادرا، وبقدر ما تسمح به "الخروم" في الألواح الطينية التي وصلت إلينا. وهذا يعني ان الكاتب تسرّب من هذه الخروم" كي يضع لمساته الخاصة على نص قديم يعرفه الداني والقاصي في هذا العالم. وإذا كان قد أضاف بعض المشاهد، أو بعض الأحداث، أو بعض التصورات، فإنها نابعة من الالتزام بأصول الكتابة المسرحية. وقام على هذا الأساس بتقسيم المسرحية الى أربعة فصول و24 مشهدا، أتاحت له فرصة التدخل بالعناصر الدرامية المطلوبة في النص.
استخدم في بداية المسرحية مجموعة من الممثلين تسرد “ديباجة" المسرحية عن جلجامش الذي رأى كل شيء... وأوغل في الأسفار... وبنى أسوار اوروك... انه البطل والملك... انه جلجامش العظيم. ويتوقف الممثلون هنا عن الإنشاد بوعي كامل من الكاتب الذي حاول تجنب مطب الإطالة والكشف المبكر عن الأحداث، رغم ان نتائج الملحمة، وخلاصتها الفكرية، معروفة لكل من قرأها. كما يتدخل الممثلون أيضا في مشهد خليقة انكيدو، حيث يتحدثون باسم أهالي أوروك وحكمائها وكهنتها مطالبين الإلهة العظيمة أورورو بالتدخل لرفع الحيف عن أهالي اوروك.
واعتقد أن أجمل التحويرات “النسبية" التي أضافها الكاتب للملحمة هي تصوره لعملية خلق انكيدو. إذ انه يتصور في المشهد الأول، من الفصل الاول، كتلة من التراب تسقط من السماء على خشبة المسرح، ثم تبدأ الكتلة بالتحرك والتشكل لتنجبل، من ثم بهيئة، رجل عضلي القوام هو ابن الضواري انكيدو. وهو مشهد سيسهل على السينما تصويره، وربما سيدوّخ مخرجي المسرحية في كيفية تنفيذه أمام الجمهور.
عُرف عن بابل السحر والشعوذة، وهو ما وظفه بعض مخرجي هوليود، كما عرف عن سكان سومر الايمان بالأحلام والسعي الى تفسيرها. ولهذا نجد أحلام جلجامش، وأحلام انكيدو، إلى حد ما، كانت من المكونات الشيقة التي يستخدمها الكاتب القديم في سرده لأحداث الملحمة، وربطها بالمصير المحتوم للبشر. ونجد ان جواد وادي استطاع اقتناص أجمل هذه الاحلام، كي يحقق من خلالها هدفه، ومثال على ذلك رؤيا الشهاب الهابط من السماء، في سرد جلجامش لحلمه أمام أمه. وهو الحلم الذي يتنبأ بظهور انكيدو، ومن ثم تحوله إلى خل ورفيق درب لجلجامش. كذلك المشهد عن جلجامش وهو يسرد لصاحبه انكيدو حلمه عن الجبل الذي يسقط عليهما، قبل المعركة مع المارد خِمبابا، ومن ثم سطوع الضوء وخلاصهما منه.
لا يهتم جواد وادي كثيرا بشرح تفاصيل الديكور والتنفيذ قدر انشغاله في صياغة الحوار والأحداث والاحتفاظ بالمحتوى الإنساني القديم، احتراما للنص. ولهذا لا نجد تفصيلا لمشاهد الصراع مع الوحش خمبايا، ولا تفاصيل شكله، ولا كيفية تنفيذ مشاهد القتال على الخشبة. وينطبق ذات الشيء على العديد من المشاهد الاخرى، مثل مشهد القتل مع الثور السماوي، التي يترك الكاتب أمر تنفيذها لتصورات المخرج، وبما ينسجم مع إمكانيات كل مسرح.
يظهر جليا ان جواد وادي لا ينتظر تعفن رغيف الخبز الأول، ولا جفاف الرغيف السابع، كما فعل جلجامش، كي يتوصل إلى حقيقة الموت الذي لا بد منه. والمسرحية تقول ما قالته الملحمة قبل أكثر من 4000 سنة، وهو ان الحياة زهرة جميلة، وان على البشر التمتع بعطرها قبل ان تذبل، قبل أن تختطفها سعلاة.
تقع المسرحية في 93 صفحة من القطع المتوسط، وصمم الغلاف الفنان الدكتور مصدق الحبيب.