ادب وفن

أخت الأنا ../ ميسلون هادي في روايتها ( سعيدة هانم) / مقداد مسعود

هذه الرواية لاأنصح القارىء الإعتباطي بالتورط في ملامستها نصيا، فهي لاتقرأ في جلسات عائلية أمام التلفزيون ، بعد وجبة العشاء، وعليك أيها القارىء غير الإعتباطي : أن تغلق موبايلك والفيس بوك ، حتى تقرأ هذه الرواية بالجوارح كلها والحواس، لتكتشف قدراتك على فن الإصغاء، وأنت تقرأ ستكون إبتسامة عريضة بسبب روح الدعابة السردية التي تعلّي من منسوب الأمل فيك في وطن مبتلى بما أهّل به لغير الله..طراوة الحكي تمنح فعل القراءة مذاق قلب النخلة الأبيض ، أعني الجمّار..أي فعل قراءة أعني ؟ وكيف يتحرك هذا الفعل دون توفرالعزم والشجاعة ..
(*)
في قراءتي الأولى للرواية.. المقتبس الشعري الذي يستقبل القارىء، على عتبة النص: تذوقته شعريا بإعجاب كبير . لكن في الصفحات ماقبل الأخيرة، أصبح المقتبس بوظيفة جهاز السونار..صرتُ أستعين به، حين تداخلت ثم تمازجت ظلال الشخصيتين الرئيستين وتحديدا في الشفرات السردية، التي تدسها المؤلفة ، منها كلام سليمان بيك حين يخاطب سعيدة هانم (أختي الوحيدة) وهناك الحوار بين سعيدة هانم وقرينتها/ مليكة جان (فقالت لها سعيدة هانم : مابك يامليكة ؟ - أنا لست مليكة جان ، أنا سعيدة هانم / 181) وهناك ماتعلنه سعيدة هانم في وضوح تام :) أعلم ان مليكة جان ميتة، بل غير موجودة بالأساس، إلاّ من خلال أفكاري)
الفرق بينهما كالفرق بين الوقائعي والمتخييل : فمليكة ) معنية بالعاطفة والإبداع والخيال ( أما سعيدة فهي )المسؤولة عن الواقع واللغة والمنطق (سعيدة وبشهادته ) أنا العالم المألوف ..سيدة الكلمات والأرقام بشهادة سعيدة أيضا، فأن مليكة هي .).الروح الحرة والشوق والأحساس..الذوق والحركة الأشكال والألوان الفن والشعر والخيال الجامح(
والفرق بين الأثنتين بالكينونة فقط ، وبإعتراف سعييدة ( أنا أعرف تماما من أكون وهي لاتعرف من تكون / 73) ولايمكن لإتصالية الخفاء والتجلي ان تستمر بينهما فثمة صوت يخاطب مليكة )لايوجد أي مخرج.. إنك تواجهين نفسك َ حسب ..فهيا كفّي عن الأختفاء خلف سعيدة هانم../ والأشياء كلها موجود في الرأس ،تؤكد لنا سعيدة هانم وتضيف : نحن الذين نسترجع أفكارا كانت موجودة هناك طوال الوقت مع كل الكلام أيضا..كله موجود هناك الفرح الابتسامات الدموع والعذابات... ونحن الذين نحدد ماذا نختار وماذا لانختار...أما بالنسبة للآخرين وتحديدا الذين غادروا الى ملاذات شتى فسعيدة هانم (لم تعد تفتقدهم كما كانت في البداية ، أحيانا يمرون ببالها أثناء تقليب الفطائر في المقلاة أو خلال الركعة الاخيرة من الصلاة../22) هنا تتفعل إتصالية حميمة يستحيل فيها الموضوع ذاتا نابضة،فقد أرتبطت الفطائر بجلسة عائلية على المائدة، وأرتبط الركعة الأخيرة بالدعاء لمن نحبهم..
(*)
كقارىء لهذه الرواية الماتعة والصعبة على القارىء العادي وما بعده بدرجات ، هذه الرواية القفزة في السرد الروائي العراقي بل والعربي أيضا ،هذه الرواية تحاول الاستفادة من مصادر شتى، ثم تطبخها طبخة عراقية ذات نكهة بغدادية حصريا ، بخصوص وجود الأشياء في الرأس تعيدني إلى أطروحات الفيلسوف بركلي ،وهذه المثنوية في الشخصية الواحدة ، تعيدني إلى الروائي إيتالو كالفينو في روايته )الفيسكونت المشطور( ثم الأعتماد على الحكي في النص أكثر من الاعتماد على السرد، والتلاعب على اللهجة، يعيدني الى جميس جويس في روايته يوليسيس..لكن هذه النصوص وغيرها (ثرمتها) الروائية ميسلون هادي في مطبخها السردي / المكتنز بخصوبة تجربتها في الكتابة الروائية والقصصية ومنحتنا رواية (سعيدة هانم) التي تستحق إحتفاءات متنوعة وقراءات ثرة لها..لقد نجحت سعيدة هانم بالاختفاء داخل مليكة جان..لكن كم كلفها هذا الاختفاء من ثمن باهض ، فالأختفاء فاعلية اضطرارية يلوذ بها الواحد أزاء الكثرة المدججة بكل شيء والأهم من كل هذه التغذيات فأن رواية سعيدة هانم تتغذى من إتصالية نصية جوانية ، أعني من روايتها( وردي فاتح اللون) وسيأتي حديثها لاحقا عن هذه المثنوية الجمالية ..
(*)
من هذه المقبوسات ومن غيرها، سيمسك القارىء، طبقة ثانية من النص، وسيعيد التصنيف الإجناسي لكل مايجري : فالحوار بين مليكة جان وسعيدة خانم ،في القراءة الثانية للرواية لايصنّف : ديالوج، بل منولوغ..وحين نحدق في التسمية ونصغي لتفكيك سعيدة خانم ..(الأسماء تجلب الحظوظ شأنها شأن العتبات والجباه../ 112) أو ماتخبرنا به حول المؤثرية التسموية على المسمّى، (الكثير من الناس يعتقدون أننا نضفي الهيبة على أسمائنا بهذه الصفات ولكنها الحقيقة اسماؤنا الفعلية التي أضفت علينا فخامة صفاتها../62) سنتمكن من تفكيك الاسم المرّكب : مليكة جان ،فهو اسم بشحنة لامرئية ،وحين أعود للمقتبس الشعري ، سأرى في كل سطر: عنواناً لفصل أو أكثر ، من فصول الرواية وبالطريقة هذه فأن للمقتبس وظيفتين : فهرسة شعرية وتقشير شفرة الرواية :
)أنا لست أنا
أنا هذا الواحد
السائر بجنبي الذي لاأراه
الذي أحيانا أستطيع أن أزوره
وأحيانا أنساه
الواحد الذي يبقى صامتاً بينما أنا أتكلم
الواحد الذي يسامح بلطف عندما أكره
الواحد الذي يتمشى عندما أقف في البيت
الواحد الذي يبقى واقفاً على قدميه حين أموت)
(*)
أن الوحدة السردية الأولى في السطر الاول من الرواية : هي الخلية السردية الموقوتة التي ستتشطى بسعة صفحات الرواية كلها..وهي كالتالي..(الاختفاء عن الانظار يشبه الحصول على المستحيل في هذه المدينة..) وكذلك المشي بكبرياء الملكات فقد صيروه..(قانون يصعب تحقيقه في شوارع الرجال المتوحشين ،أنهم زبالة يمشون فوق زبالة../9)..أنها اتصالية نسوية واخزة : الاختفاء/ الكبرياء، في فضاء اجتماعي تتحكم به وحشية التخلف الرجولي ،ومن هنا سنلاحظ الرواية ، تثبّت المرأة المعنفة كشخصية رئيسة في الرواية ،ولاتظهر من الرجال، سوى ظلالهم المعتمة، المبثوثة في حياة النسوة وحيوات الشارع..(لايوجد في أصباغ السلي بوية لون للإنسان../31)..
(*)
لاحضور ولا إستعادة لدور الذكورة؟ الأب : محض استعادة مشوشة بالفرشاة والألوان وبشهادة سعيدة :(ولاأرى أبي في أي مكان /38) والأب يبث خوفا لدى مليكة جان ..(وكانت مليكة جان تضحك لهذا السبب لأنها تخاف أبي وكانت تملأ المكان فرحة ..) والشقيق سليمان بيك ذكورة بشحنة سالبة فهو مجرد من ملكية التفكير وهو لايعرف ولايدرك (حقيقة كون أخته الوحيدة سعيدة هانم تتعدد وتتضاد مرة أخرى)،وإذا اقترضنا من القاموس الشعبي في الرواية فأن سليمان بيك (لاغيرة ولاغررة) غادر وطنه وغدر بشقيقته، حين تركها وحيدة ً، فأنشطرت الشقيقة إلى أثنتين، وبهذا الانشطار، حذفت سعيدة خانم الكثير من السيئات التي أقترفتها الحياة والعائلة ضدها.(لأن الحذف قد يكون أحياناً أهم من الإبانة../ 118) بهذه القدرات الفردية ، حاولت سعيدة أن تشعرن المكان والتمكن فيه ، ومسرحت حياتها في مثنوي الخارج/ الداخل ،وبشهادتها..(من خلال أفكاري التي أحاول أعمل عليها بجد بين البيت والمدرسة، ولكني أفشل في تفصيل الواقع على حياتي وإذا ماحاولت ذلك، سيرفض عقلي وجسمي ذلك../176)
(*)
في الخارج :هي مدرّسة لغة عربية بملابس تقليدية ، وانمسخت جدلية المكان بالمكين وظهر قانون قاس في جدلية جانحة بين المكان والمتمكن فيه ، فصار(الإنسان يشابه البيئة في هيأتها الرثة../29) فالناس عيونهم مالحة كعيون أطباء التشريح /20 وبغداد لم تعد تأذن لأحد بفتح عينيه على الجمال، ومدينة غائبة عن الجمال (لن يتحقق الأمان فيها قط .هذا هو الشرط الخفي الذي ظل مهملا لحد الآن، فتحول إلى قانون قاس من قوانين العلاقة الجدلية بين المكان والمتمكن فيه، يتماهى الثاني مع الأول من أجل النجاة، ممايجعله يتشابه مع البيئة في بشاعتها وهيأتها الرثة، وهذا هو بالضبط ماتفعله بعض السحالي الصغيرة عندما تتشابه مع بيئتها للدفاع )
(*)
في الداخل أعني في بيتها هي ترتدي مايلائم ذوقها الخاص ، تصلّح أوارق أمتحانات الطالبات ، وتكرس بقية يومها للرسم، وتنظيف البيت وغسل الملابس واعداد الطعام والتواصل مع العمة حورية ، ثم الانفتاح على المجتمع الشبكي بشكل محدود،وحصريا مع صديقة عمرها التي غادرت العراق منذ سنوات..ومن خلال الصديقة، ستلامس ماهو حقيقي ومفيد وبالرسم تمحو المحو وتعيد الجوهر إلى تفرده..(أنها تريد التغلب على الزمن وتبحث عن حياة ثانية لكل شيء يختفي من حياتها/ 31/36/ 47/ 49/ 54/ 58/ 64/ 77) أنها مليكة التي لن يلحظ الناس وجودها، لأنها متخفية دائما خلف هلاهيلها البنية ) وهي تستقوي بالرسم،وماتسرده الفرشاة(26/27/ 30) بالنسبة لمليكة جان أفضل من آلاف من الكلمات والأرقام..فاللوحة كنص مرئي يستقطب عشرات العيون بتوقيت لحظة واحدة..ومليكة تحتوي الساكن / المتحرك ..لاتتحرك من مكانها، وتهرع بعد ذلك إلى مكانها في المرسم، هائمة مع روحها المتمددة في كل زوايا وأرجاء البيت، في كل زاوية هناك قطعة منها تفترش الأرض بهيام وأحيانا تغني..)
(*)
صوتيا تتناوب ثلاث أصوات على حياكة نسيج السرد : سعيدة خانم / مليكة جان / السارد العليم، وهناك فصول تسهم الأصوات معا في النسيج (70/ 92/ 94/ 122) وتتحاور الأصوات الثلاثة في (179/ 181) وفي غير ذلك من الصفحات وهذا النسيج الصوتي المتشابك يبث تشويشا على القارىء غير الملم بغوايات غابات السرد ومتاهاتها ، وفي الوقت نفسه فهذا النسيج يشد القارىء النوعي الباحث عن التقنيات السردية الموظفة بالشكل الجميل كما هو الحال في هذه الرواية المحكمة في نسيجها السردي
(*)
يستعمل السرد ثلاث إحالات تكرارية :
*حكاية أصايل البدوية مع والد سعيدة خانم : /24/ 48/ 49 مليكة جان تتهم والدها بعلاقة آثمة مع أصايل..ثم ترسمه سجينا ، فتحاور سعيدة مليكة جان لتدحض سرود فرشاة مليكة جان وأن كلامها لاأساس له من الصحة ..وهنا ينفذ صبر القارىء العادي ، أما القارىء النوعي فيتدخل غابة التأويل وإساءة التأويل ..وفي هذا المستوى لايتدخل السارد العليم ليحسم الأمربل يتعمد الغيّاب ليسهم القارىء بترميم فجوة النص حول الموضوع ..
*حادث سقوط سعيدة/ مليكة / 35/ /36/ 177/ 178السرد هنا أخف تشويشا وشفرة لاعتمة فيها..
*النفّاخة تحت ملابس سعيدة بتوقيت الحمل الثالث لأمه في هذه الإحالة إلتباس متقصد تنبجسه من شفرة مفتاحها معها ..
(*)
ثلاث مرات تسقط مليكة جان ،الأولى وهي في دولاب الهوا، حين كانت بمعية عمها ، والثانية حين كانت مع ابن عمتها في المرجوحة الكهربائية ،والثالثة حين ترمي بنفسها من الطابق الثاني في البيت، وفي هذه السقوطات أو السقوتات كما تلفظها هي، ثمة شفرة شفيفة
(*)
يتمازج الشفاهي بالسردي في الرواية، والشفاهي مشحون بشعرية اللهجة البغدادية ،التي أستروح فيها أنفاس الروائي غائب طعمة فرمان في رائعته (النخلة والجيران) تحديدا والحكي له مساحة واسعة في رواية) سعيدة هانم( وهو يتدفق بعذوبة آسرة..