ادب وفن

قصص سركون بولص أنموذجاً .. القسم الأول.. / جاسم عاصي

سركَون بولص يُعد في طليعة جيل الستينيات من القرن المنصرم ، فبالرغم من أنه عُرف شاعرا ً، إلا أنه نشر في بواكير حياته الأدبية ،عددا ًمن القصص المتميّزة في تكنيكها ومضامينها الوجودية التي تعالج نماذج ممن أُستلبت حريتهم وصودرت حقوقهم ، ومن الذين يعانون من القلق إزاء مجريات الواقع . بل يمكن أن نقول عنهم ؛ كونهم على قطيعة مع الواقع ، يشعرون بالعزلة والتهميش .
القاص ينتمي إلى جماعة كركوك في كل ما قدموه من جهد ثقافي وتجريبي في فن الكتابة شعرا ً وقصة ، أخذوا على عاتقهم نقل التجارب الجديدة في كتابة الأجناس الأدبية . ذلك لأن أغلبهم كان يجيد لغة مضافة إلى العربية لغته الأم ، ثم أن التنوع الذي كسا كملمح أدبي تجاربهم هو التجريب بكل أشكاله وتبايناته ، فلم تحكمهم حالة تجريب واحدة ، بل كان سعيهم بحدود نقل تجاربهم في التجريب على صعيد الكتابة في تباين واضح لكل واحد منهم . هذه المجموعة المولعة بالتجريب وبسعة ثقافتها هم (فاضل العزاوي ، صلاح فائق ، يوسف الحيدري ، جان دمو ، أنور الغساني ، الأب يوسف سعيد ، جليل القيسي، مؤيد الراوي ) .
ويمكن اعتبار( سركَون بولص ) من رواد التجريب القصصي في العراق ، فقد وعى فنه وأدواته القصصية . وهو ينضم إلى تجربة ( الأب يوسف سعيد ) في كونه يماثله في نتاجه الغزير في الشعر . من هنا كان ذا قدرة على تجاوز نفسه وتخطيها ، وعلى تطوير فنه باستمرار وقد كان لمعرفة القاص باللغة الانكَليزية أثر كبير في اطلاعه على التجارب القصصية في العالم ، سواء عن طريق القراءة أو الترجمة (1) فقد بدأ بداية طيبة وجريئة ، بحيث تميّز من بين الأسماء الأولى التي دشنت حقبة الستينيات من القرن المنصرم باتجاهات كتابة القصة على نحو فيه الكثير من التجديد والتجريب على صعيد العراق . وبذلك فرض نفسه قاصا ً متمكنا ً من فنه بين مجايليه ممن كانت لهم تجارب متميّزة.
القهر الموضوعي و الذاتي
ينظر نموذج قصة (القنينة ) مثلا ً إلى فعل الآخر باعتباره القوة التي تسلبه حريته . لذا فمبدأ التمرد على هذه الحرية ، التي لم يخبرها تكون النواة الأولى . فهو مبدئيا ً لا ينصاع إلا لإرادته ، أما الآخر فهو من سلب هذه الإرادة الذاتية .فكل ما يعاكسها مردود ومطرود ، فهو يحاول أن يستبدل الطرد بفعل الآخر إلى طرد ذاتي . أي أنه يتمرد على مضطهده ، حتى لو كان أقرب الناس إليه . ولعل كسر وتيرة السرد واستبداله من السرد المتوالي والوصف المتراتب إلى محاولة تشكيل نمط آخر ، رديف لتمرده بديلا ً عن التمرد السياسي . فالتمرد الموضوعي على الواقع ، يقابله تمرد على البناء العام والخاص في النص ، فالخاص ما تعنيه اللغة القصصية ، والعام هو المعمار الفني للنص . أما الأفعال للنموذج ومن يحيطه ، فهي محركات لما يترادف من أفعال ومتغيرات بنيوية سواء في العلاقات الاجتماعية ، أو العلاقات اللغوية . فكسر رتابة السرد والوصف يعني استكمال دائرة التمرد العام في الوجود . أي ملء الفراغات في حياة النموذج المهمش اجتماعيا ً وثقافيا ً، المُبعد بالقوة والوهم عن ممارسة حريته حسب ما يفهم ويعي . وهذه الخاصية البنيوية تعني نمو شريحة من الشباب اغتربت عن واقعها بفعل تأثير المعرفة ، وانفتاح الثقافة على مستويات صادمة ، أوهم الجيل المشمول بهذا الحراك . من هذا نرى أن الفرد هنا مُستحوذ عليه من قبل الآخر كموضوع ، والأنا كذات . ففي الأولى يجد أن كل المتغيرات السريعة والمتأثرة هي ليست من جدول وجوده . وفي المقابل يرى أنه قادر على صياغة حياته بنفسه وفق قيم جديدة . فوهم التجديد هنا منبعث من فراغ ، والقاص يؤكد من خلال سرديته القصصية هذه على خطل التوجهات تلك ، مقابل محو الشخصية وذوبانها ، ليس في الآخر كما يتصور النموذج ، بقدر ذوبانه في الوهم والمتخيّل . وفي هذا يستخدم القاص مفردات لغوية قاطعة ، وانتقالات مغايرة للنمط والنسق ، تحكي تحولات مفاجئة . ومن الأمثلة على هذا نورد :
(غطس في الصمت )
( سمعته ، كان يهمس للمرأة التي تضيء بالضحك )
( اقترب ثقيلا ً )
( فانفتل ، نهض ) هذه الانتقالات في الوصف والسرد دليل على اضطراب النموذج ، أو أنه يرى الأشياء من خلال نظرته المتوحدة مع شخصيته المستلبة . هذا على صعيد المبنى واللغة ، أما في ما يخص المعنى . فيضعنا القاص أمام عالم فيه تباين مع القيم الاجتماعية . ( ثلاثة هم رجل وشاب ، وامرأة مستلبة جنسيا ً ، شجرة صنوبر تحميهم من المطر المدبب ) أو هذا البول لا يترك شيئا ً جافا ً ) ويقصد المطر . يعيب الأول على الثاني فشله في المعاشرة الجنسية مع المرأة الراقدة تحت الشجرة ، ويؤنب الثاني الأول على كونه يعاقر الخمرة والجنس ، وقد فقد ولده يوم أمس . هذه التناقضات أو المفارقات لا تقود إلا إلى نقطة رجاحة كفة هذا على ذاك ، بل أن كليهما يتأرجح بين رغباته . لكن الرجل الأول يحمل مرارة الفقدان التي يداريها بدخول عالم لا يجد فيه حدوداً لتفكيره بما فقده :
(إنني شقي ، لماذا مات ، لماذا ؟)
(أنني شقي ، لأنني شقي)
(ابنك مات البارحة ، لماذا جئت بالمرأة ؟)
ولأنهما مقهوران معا ً فنهايتهما مفجعة ، فيها شيء كبير من الإحساس بالخيبة ( رفع رأسه فجأة ، أرهف إذنه ، مغمضا ً . كانت المرأة تغني ، وكان الغسق ، وقال : إنها حنونة جدا ً . وأخذ يبكي ) .
هذه نهاية فاجعة الاثنين ، لأنهما مسلوبا الإرادة ، منغمران في آتون الرفض القاطع ، والشعور بالتفوق الاجتماعي تشبثهم بحرية واهية ، خارج النسق الاجتماعي .
كان القاص أكثر دراية بما يعالجه في النص ، كثّف الصراع الذاتي الذي تخلقه المواجهة مع الواقع .
قسوة النعت
لا شك أن (سركّون بولص) يتعامل مع شخوصه بقسوة واضحة ، وهذا ظاهر ليس من طبيعة أفعالهم ، وتصرفاتهم ، وتداعياتهم التي تميل إلى التمرد على الواقع من جهة ، وعلى الذات من جهة أخرى فحسب، لكنه أيضا ً يقسو عليهم من خلال طبيعة اللغة والمفردات التي تنعت طبيعتهم ، وتطعن بإنسانيتهم ، وتضعهم في المجال الأدنى من الوجود . ولعل الأمثلة التالية دالة على مثل هذا التعامل في قصة (الحفرة) :
( أنت واقف في الغرفة ، تعرف كل شيء وتخاف كل شيء وتتكلف ، لأنك واثق من أنك مخلص جدا ً ولا مبال جداً)
ولعل هذا يشير إلى الصراع داخل الشخصية بين السلب والإيجاب.
(فراغ نظرتك التي مسختك جباناً)
(أنت سلبي كالورقة المقطوعة)
(جدفت البارحة ، شتمت هذا الوجود الدنيء)
( إنك سافل في نظر مخلوقة شاحبة ورائعة جدا)
(تافه ، تافه ، لأنك جئت وستذهب وفي مكانك قد يبقى حذاؤك وثيابك
ولاشيء آخر)
(والزمان الذي تلاها انحدر إلى جوف البالوعة كورقة صفراء)
هذه الإسقاطات للصفات ، لا تضع الشخصية إلا ضمن مجال الدونية من الحياة ، ليس من باب قلقها فحسب ، وإنما عبر وجودها القلق والحرج والعدائي وسط منظومتها الاجتماعية . إنه نتاج أوضاع عامة مرتبكة ، ترقد في قاع السارد ، وتحرك أدوات إدارة وجود النموذج القصصي هذا . تختلط في هذا النص الخصائص والمؤشرات غير الإيجابية مع المؤشرات السلبية ، فالشخصية وسط كون مضطرب ، أو أنه يفتعل الاضطراب ، ولا يريد أن يحقق توازنا ً مع المجموعة . إنه ناتج تصورات وأوهام ، حقق القاص من خلاله ومن خلال النصوص الأخرى ، خواء الجيل ، لأنه لم يعتمد حراك مؤثر خارج منظومته الذاتية المعلولة . إن القاص يحاول بهذه اللغة المباغتة والجارحة ، وذات النبرة المؤنبة والموقظة لردود الأفعال السلبية أن يضع الشخصية في المجال الحرج . فهي لغة ليست محايدة ، بقدر ما هي منقبة في جوّانية النموذج الذي يبتعد عن المنظومة الاجتماعية ، لا لشيء سوى التمرد من أجل التمرد . إن ما عنيناه بالقسوة في استخدام المفردة التي تعكس صفات الشخصية ، هي لغة مباغتة وجارحة ، لكنها مناسبة ، واصفة وموصوفة .
البطل المهزوم
لم تكن لنموذج القاص الفرصة ليستقر ، إذ وجدناه موشوماً بالقلق ، وفقدان الإرادة ، حتى تصل حد الهزيمة إزاء المواقف التي تواجهه . ونموذج قصة ( قطار الصباح ) شأنه شأن شخصياته الأخرى يعاني من نفس الحالة ، القطيعة مع الواقع ، وأزمة في عدم قدرته على التآلف مع الآخر . فالأزمة تتكرر ، ويختلف السبب ، أو الكيفية . فنموذجه هنا يعيش خيانة الزوجة ، دون أن نكون أمام تفاصيل موجبة . فالقاص يأخذ بنتائج الحالة ، ويبلغ من خلالها تحقيق بنى فكرية اعتبارية لوجوده . وكعادته يعالج المشاهد والعلاقات التي تشكّل حراك النص بلغة متشنجة ، لا تعتمد التسلسل في السرد ، بقدر ما تتحول بنيته من مشهد إلى آخر ، منطلقة من زاوية وجهة النظر ، وبأسلوب تهكمي هدفه الإدانة وكشف المستور دون أن يترك للآخر مجالا ً للدفاع . فلكي يدني من شأن الزوجة المحكومة بالخيانة الزوجية ، نجده يراكم الصفات التي ينعتها بها ، معتبرا ً ذلك دليل إدانة ، مع تبرئة ساحته في مثل هذه الظاهرة التي يعيشها . إنه بطل فرد ، يرى الأشياء من زاويته ، فهو يُسقط هزيمته على كاهل الآخر . ولنحاول الوقوف على ما يُشير إلى منطق الإدانة كالآتي :
(الرجل السمين ينظر إليّ .......كان حاراً تحت جلده المتعفن ...... وحوله بِرَك صغيرة آسنة ....... بدا كجزء من إخطبوط مسلوخ ... ولم أنتبه إلى أنني في العراء )
هذه الجُمَل تشير إلى قلقه ، الذي يقوده للاستسلام إلى كابوس ، يقربه من هوس وردود فعل أبطال (فرانز كافكا) المعروفة ، التي سحقتها رتابة النظم المتسلطة ، فهب بأبطاله باتجاهات مختلفة لعل الكوابيس أخطرها وأكثرها وقعا ً على الشخصية . وأبطال (سركَون) من هذا النوع الذي وقع عليه الحيف الاجتماعي ، وبالتالي الأسري المتمثل بالخيانة . وكابوس الرجل السمين تمهيد لذلك . فهو يرى الأشياء من خلال وهم الرؤى التي تصوغ تجربته مع الآخر (رآني أخرج إلى العراء / من القلب القذر للمدينة ذات الشوارع ، من الدائرة ذات النافذة الواحدة ) إذا ً كانت أزمته عامة أسقطها على الخاص ( الرجل السمين والزوجة ) فهو يشعر بالملاحقة ، تماما كشخصية ( سامسا ) لكافكا ، الذي تُحيله أزمته إلى حشرة كبيرة مسخ . فالبطل هنا ملاحق من قبل الأعمى ، وهو يتيه وسط غموض الأمكنة وغرابتها . إنه شعور بالضياع والتيه ، بسبب الُنظم المفروضة عليه ، فما كانت ردود فعله إلا التيه في عوالم الكوابيس . فأزمته مع الزوجة ، جزء من أزمته مع الوجود الذي يحس أنه سلب منه حريته وإرادته . فما عليه إلا أن يسقط كل ذلك الحيف على الزوجة :
( ولذني أن أكون قويا ً وجافا ً كالأبطال ، وأعليت حاجبي وغضنت فمي بصرامة وأنا أهددها بالسكين الطويلة ، وفجأة قفزت كالقطة ودفعتني بقوة فسقطت ).