ادب وفن

في الذكرى الثامنة لاستشهاد كامل شياع : نصون ذكراه بتحقيق مشروعه الثقافي */ مفيد الجزائري

منذ شهور وانا في لقاءات متواترة، وفي بعض الاحيان يومية، مع ابي الياس – العزيز كامل شياع، المدير العام للعلاقات الثقافية في وزارة الثقافة اولا، ومستشار الوزارة تالياً، حتى خروجي منها آخر نيسان 2005.
مناسبة هذه اللقاءات هي انصرافي، سوية مع الصديق الفنان فلاح حسن الخطاط، الى تهيئة مواد ومستلزمات اصدار كتاب توثيقي عن مؤتمر المثقفين العراقيين، الذي التأم في بغداد قبل اسبوعين من مغادرتي الوزارة، ايام 12 حتى 14 نيسان 2005.
فهذا المؤتمر، الذي اتفقنا في ايام انعقاده، كامل ولطفية الدليمي وانا والكثرة الكاثرة من مثقفينا الآخرين المشاركين فيه، على ان نعتبره الاول، وعلى ان يتوالى انعقاده بعد ذلك مرة كل سنتين، هذا المؤتمر لا سبيل للحديث عنه من دون تأشير الحضور الطاغي لكامل شياع فيه، فكرة وتخطيطاً وتمهيداً وتحضيراً وتنظيماً وتنفيذاً.
فكيف يمكن، والحال كذلك، اصدار الكتاب عنه من دون استحضار اسهام كامل الاساسي في شتى جوانبه؟ ومن دون الرجوع اليه والتشاور معه؟ خصوصاً وانه، ابا الياس، كان منشغل الذهن غداة المؤتمر باعداد هذا الكتاب للنشر، وقد كتب مقدمته، وانغمر في جمع توصياته وبقية الوثائق.
هكذا كنت في الاشهر الماضية اعود اليه باستمرار، اواصل واياه حديثنا غير المنقطع، واستذكر معه بوجه خاص كل ما يجدر الا ننساه ونحن نهيء الكتاب للطبع.
وحديثي المباشر مع كامل بدأ مبكراً بعد التحاقي في ايلول 2003 بعملي في وزارة الثقافة. سبقته اشارة منه، وكان حينئذ مقيماً في بلجيكا، الى رغبته في المجيء الى بغداد والعمل معنا في الوزارة. وكانت الاشارة بالنسبة لي مبعث تفاؤل. فقد كنت على علم بانصرافه الى شؤون الثقافة والنشاط الثقافي، والى الفكر والتأمل الفكري. نعم، لم اكن اعرفه شخصياً، لكني كنت اقرأ له، وكنت اتابع اخباره وتحركاته – وانا في شقلاوة، حيث مقر قيادة حزبنا حتى نيسان 2003 – عبر اصدقائنا المشتركين العديدين.
حين وصلت الاشارة كنت منهمكاً في معالجة موضوع الكادر القيادي للوزارة، في اخلاء المواقع الرئيس فيها من شاغليها الموروثين من النظام السابق، واختيار بدلاء مناسبين عوضاً عنهم. وكنت منشغلاً ايضاً في تشكيل فريق من الكوادر الثقافية، يمكن الاعتماد عليه في انجاز المهمة المذكورة اولاً، ولاحقاً في النهوض بما هو اساسي، واعني وضع تصور لما ينبغي ان تكون عليه السياسة الثقافية الجديدة، ومن ثم تحديد محتوى عمل الوزارة ومهماتها الملموسة، واعداد خطة تنفيذية.
بعد انقضاء اسبوع ربما على مباشرته العمل معنا، بدأنا سوية سلسلة جلسات طويلة، لم نترك فيها امراً يخص الوزارة والثقافة، وواقعهما وقضاياهما، والتغييرات المطلوبة فيهما، وسبل ومستلزمات تطويرهما، الا وخضنا فيه، وتوصلنا الى خلاصة اولية في شأنه.
وكانت حصيلة ذلك الجهد المشترك، الذي كشف عن تطابق في رؤيتنا وتقييماتنا وتصوراتنا في شأن مستقبل الثقافة والوزارة، واوليات العمل ومتطلباته، كما كشف لي شخصياً عمق وواقعية نظرة كامل الى المسألة برمتها، ورغبته الجارفة في استثمار الفرصة الاولى من نوعها، المتاحة لتغيير الواقع الثقافي، والانغمار فيها.. كانت الحصيلة خطوطاً عامة لمشروع تغيير حقيقي، ولبرنامج تنفيذ عملي. وهو ما كان كافياً بالنسبة الينا، ونحن بعد في بداية العمل.
طبيعي ان ما تبلور بشكل اولي في مجرى احاديثنا وفي نهايتها، لم يكن من بنات افكارنا وحدنا، كامل وانا، فقد كنا، نحن الاثنين، على صلة دائمة، وفي حوار لا ينقطع حول هذه القضايا، مع كثيرين من رفاقنا في الحزب الشيوعي ومن اصدقائنا وزملائنا في الوسط الثقافي وغير الثقافي، من المعنيين والمهتمين، في الداخل والخارج، وبضمنهم المستشارون الجدد الذين كانوا باشروا قبلنا العمل في الوزارة. وكان مما استرعى انتباهي خلال ذلك، حيوية ذهن كامل وخصوبته، وقدرته على التقاط الافكار وجمعها وبلورتها، وصفها في نسق منطقي.
كان لب ما توصلنا اليه هو ان التحول المطلوب في الميدان الثقافي، والقادر على اطلاق النهضة الثقافية الضرورية، لن يمكن الوصول اليه من دون العودة الى ذوي الشأن، الى المثقفين انفسهم، والى منتجي الثقافة منهم بنحو خاص، والا باشراكهم مباشرة في مناقشة السياسة الثقافية الجديدة وصياغتها اولاً، وفي وضعها موضع التنفيذ ثانياً.
وهذه الخلاصة هي في الواقع ما صار قاعدة ومنطلقاً لعمل الوزارة على مدى السنة ونصف السنة التالية، من تشرين الثاني 2003 حتى آخر نيسان 2005، حين تركت الوزارة.
في هذا الصدد اشير الى ثلاث محطات رئيسية.
الاولى هي النداء الذي وجهته الوزارة في تشرين الثاني 2003 الى المثقفين العراقيين في الداخل والخارج، ودعتهم فيه الى موافاتها بتصوراتهم ومقترحاتهم في شأن السياسة الثقافية، التي يجدر ان تعتمدها الوزارة. وقد لقي النداء تجاوباً واسعاً، وحصلنا بفضله على كثير من الافكار الهامة والثمينة، التي تحولت في ما بعد الى اساس لاول وثيقة ثقافية اصدرتها الوزارة.
كان ذلك في مطلع سنة 2004، وكانت الوثيقة بعنوان « نهجنا الثقافي». (وقد الحق بها كامل بُعيد ذلك « خطة تنفيذية»).
المحطة الثانية هي المؤتمر المصغر للمثقفين العراقيين، الذي احتضنته منظمة اليونسكو والتأم بعد ذلك ببضعة اشهر في مقرها بباريس. وقد شاركت فيه نخبة من مثقفينا، وخرج بوثيقة اخرى هامة، وبأكثر من محفز اضافي لاسهام المثقفين في عمل الوزارة.
اما المحطة الثالثة والاكثر اهمية، والتي توجت سعي الوزارة الى اشراك اوسع اوساط المثقفين في رسم سياستها، ووضع خطة عملها، فهو المؤتمر الاول للمثقفين العراقيين، الذي ساهم فيه ما يزيد على خمسمئة من مثقفينا، في سابقة بقيت سابقة ولم تتكرر الى الآن، ووضع التوصيات الكثيرة والغنية لورشة الست عشرة، والتي جسدت رؤية اوساطنا الثقافية برمتها تقريباً، الى السكة التي يتوجب السير عليها في مجال الثقافة، والبرامج العملية التي يتوجب تنفيذها في ميادينها المتنوعة.
في ذلك المؤتمر الثقافي الكبير والفريد، مثلما في سابقه الاصغر في باريس، كان كامل في الطليعة. كان هو الداينمو الذي لا ينطفئ ولا يكل. وكان بحيويته، وتفانيه وتواضعه، ولطفه وهدوئه، نموذجاً يثير اعجاب من هم معه وحوله، مثقفين وغيرهم، عاملين او متفرجين. كان مثاله يستهويهم ويجذبهم، ويطلق فيهم روح المباردة، وحب العمل، والميل الى النشاط المنظم، بجانب البحث عن المتعة الرفيعة في الثقافة والمعرفة.
اقول هذا وانا بعيد تماماً عن الرغبة في تصوير كامل بصورة الاستثنائي والخارق. ولعل من فضائله الكثيرة انه، هو نفسه، كان ينفر من الظهور بمظهر غير العادي. مثلما كان يميل الى عمل الفريق، ويكره الانفراد ولا يلجأ اليه الا حين تفرضه خصوصيات الانتاج الثقافي، وطابعه الفردي احياناً.
لذا فان الحديث هنا عن الدور البارز والمميز، الذي لعبه كامل، سواء على صعيد المحطات الرئيسية الثلاثة المذكورة، او في عموم عمل الوزارة حين كنت مكلفاً بادارتها، لا يلغي ولا يقلل من قيمة الجهد المحمود، الذي بذله العديد من الاخوات والاخوة المسؤولين معنا في الوزارة آنذاك ومن المثقفين، والذين يعود الفضل لهم ايضاً في تحقيق ما امكنها تحقيقه.
كان كامل صاحب مشروع ثقافي تقدمي، هو واقعاً مشروعُنا جميعاً، مشروع المثقفين الديمقراطيين، الطامحين الى اقامة عراق عصري، تشكل الثقافة الى جانب الديمقراطية، رافعة اساسية له.
وكان هذا المشروع، الذي افلحنا مع كامل وبقية اخواتنا واخوتنا في الوزارة، في التقدم خطوات على طريق تنفيذه، كان وما زال مشروعاً واقعياً، ممكن التحقيق، وتتوجب علينا كلنا مواصلة السعي لتذليل ما يعترضه من كوابح وموانع، وتحويله الى واقع ماثل شاخص.
كامل نفسه كان واقعياً تماماً، في تفكيره وسلوكه ومجمل حياته. كان يحلم؟ نعم، وكثيراً! لكن الحلم في النهاية من سجايا الواقعيين الاقحاح.
ولأن كامل كان واقعياً، وعلمياً، وصاحب مشروع ثقافي ديمقراطي واقعي وعلمي، ولأنه بجانب ذلك قدم نموذجاً حياً وجذاباً في الفكر والسلوك والحياة، فقد اخاف الظلاميين، واثار حفيظتهم وكراهيتهم. لذلك قتلوه. وعلى عادتهم – غيلة وغدراً! وعلى عادة سلطاتنا- ثماني سنوات ولم تكشف عن القتلة، او تقلق نومهم في احضان جيراننا الاعزاء.
ايها الاحبة
في ذكرى شهيدنا الغالي ابي الياس، شهيد الثقافة، شهيد الشعب والوطن، نذكّرُ بدمه المسفوح، والمُطالب بالاقتصاص ممن هدروه ظلماً.
ستبقى ذكراه مطبوعة في قلوبنا وعقولنا.
وسنبقى نصون هذه الذكرى ونسقيها، بالعودة الى مشروعه الثقافي والعمل على احيائه وتحويله الى واقع حي.
****
*مداخلة قدمت في فعالية استذكار الشهيد كامل شياع، التي نظمتها دار النشر والثقافة الكردية يوم الخميس الأول من أيلول الحالي على قاعة بيتنا الثقافي ببغداد.