ادب وفن

الشاعرة فدعة … بين الصدق والأصالة والإبداع.. والمحل والجدب والانقطاع / لفته عبد النبي الخزرجي

لا يمكن أن نحكم على الشاعر، ما لم نتعرف على البيئة التي كان يعيش فيها، والظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كان الشاعر... يستظل بفيئها، وتلهبه سياطها، وتفرحه اعيادها، وتستوقفه معاناتها ولحظاتها التاريخية.
الشاعرة العمارية فدعة بنت علي آل صويح، والتي ذاع صيتها، كانت مثالا حيا على تلك الظروف الاجتماعية والاقتصادية وما آلت اليه الحياة العامة في زمن الإحتلال العثماني الغاشم للبلاد العراقية، حيث الجهل والتخلف والأمية والامراض والفقر والحرمان والظلم والتسلط والاقطاع.
إن العراق في زمن السلطة العثمانية، كان عبارة عن مشيخات تنفرد بها مجموعة من القبائل المنتشرة كأسلاف وإقطاعيات في مناطق تمتد في المنطقتين الوسطى والجنوبية. وكانت الساحة تخضع لخمسة رايات معروفة آنذاك، وحسب ما افرزته سياسة السلطنة العثمانية لتحكم قبضتها على هذه المنطقة الملتهبة عشائريا وقبائليا. حيث يذكر الشيخ حمود الساعدي في كتابه "دراسات عن عشائر العراق"، أن الرايات الخمسة التي كانت تتحكم في المنطقة التي تمتد من بغداد الى العمارة والمنتفك جنوبا،هي: "راية زبيد، راية الخزاعل، راية ربيعة، راية بني لام، راية المنتفك – السعدون".
وقد عاشت فدعة وعاصرت مشيخة الشيخ حمد آل حمود، شيخ الخزاعل في الحسكة "إمارة الخزاعل". وكان نفوذه يمتد على رقعة واسعة تغطي منطقة الحسكة "الديوانية حاليا" واجزاء من السماوة والحلة المجاورة.
ولذلك جاءت قصائد فدعة مطبوعة بما افرزته الفترة الزمنية في ظل مشيخة الخزاعل، والموروث العشائري، والمفردات المتداولة حينذاك.
ولأنها ادركت منذ البداية، أن أباها وأخاها، سيواجهان مواقف صعبة، من قبل الخزاعل، فقد بادرت الى سحب البساط من تحت اقدامهم، وأقدمت على مدح رأس الخزاعل "الشيخ حمد آل حمود" بقصيدة تقول فيها:
حمد مرضي العرب والروم والباشات
يجالسها ويجلمها بسبع لسنات
لسان للعرب ولسان للبيكات
ولسان اللعد الروم والشاهات
ولسان اليعرف الرمز والشفرات
ولسان اليبلم كل جواجبها
منه مهدبله كلها شواربها
كوسج بالبحر كسر مراجبها
منه تغدي الغرابه سبع لاكات
فما كان من حمد آل حمود الا ان يحتضن اباها، ويقربه، ويجعله مشيرا له في كثير من امور القبيلة.
أما عن اخيها حسين، فقد اودعته كل ما تجود به من قصائد، لتجعله متميزا على قومه، متقدما فيهم.
لابس كلادة وبدن من جوخ
ومثل الغنم عنده الشيوخ
فاعوس اليلوخ الدسر لوخ
اخوي الجنج والوادم فروخ
وقد احتل حسين بن علي آل صويح، شقيق فدعة، مكانة بارزة ومتميزة في حياة الشاعرة، وأحتل مساحة واسعة في قصائدها :
عكفة جرن باشه حلايب
وحليبها ماهوش رايب
جانون الك يحسين ثاجب
ما بين صلبي والترايب
وعندما سقط حسين في معركة غير متكافئة.. كانت فدعة.. تراقب الموقف عن قرب، وترسم خارطة المعركة بتفاصيلها :
بعده الفجر ما جهجر ولاح
دكعد وصلي عل الفلاح
وأسمع هطل وملامح إرماح
أخوي الرديني تكنطر وطاح
ونلاحظ الثقافة العشائرية، في الثأر، والحماسة، والغضب :
زامط اخوي وشاله الغيض
وباجر اتشوف لسيفه الميض
لا بن زنه اخوي ولا ابن حيض
ويسطر اللذي الهم يغيض
يا علوة الشلهت عن الفيض
يمشراكة اشته ومكسر الكيض
وهي تكيل المديح لأخيها، فتصفه.. بأنه :
نغل الماش يالما ينطبخ بالزاد
وهذا مثل عراقي تم توظيفه من قبل الشاعرة بطريقة ذكية :
بارح يليفسد البيض من عشه
يا بحر الظلام المحد يدشـه
إنته لعبة البطلة يبو خشه
نغل الماش يالما ينطبخ بالزاد
ورغم ان الشاعرة فدعة، قد عاشت في فترة تكاد تكون مظلمة تماما،حيث الجهل يضرب اطنابه في البلاد، والنزعة العشائرية المتزمتة، وحرمان المرأة من اي حق، ومجتمع ذكوري تطغى عليه لغة التفرد والتحكم والسيطرة، الا أن بروزها في انشاد الشعر في المناسبات والمديح والرثاء وغيرها، قد جعل الشاعرة تحتل موقعها في المجتمع الريفي بجدارة.
ديوان لإبن احمود والبيـج
ضجـضيج ما ينطي طريـج
حـلك النـذل منه يضيـج
اخوي الحجه وحط للحجي ميج
وحجيـه مثل لهد المزاريج
طوبـس عـدوه والصديج
ما ينعبـر بحـر الغميج
يحسين غربالك بالابـريج
هذا ما قالته في أخيها، وهو يتعرض للمضايقات من الخزاعل، لأن ابناء القبيلة يشعرون أن رجلا غريبا يساكنهم ويتفوق عليهم في الفروسية والفراسة، ويحتل موقعه بجدارة في مضيف أو ديوان الخزاعل. كذلك كان أبوه ايضا، وخضع لاختبارات كثيرة " الغربال " من الخزاعل، فخرج منها ناجحا متفوقا.
إن الذي يهمنا في هذا الاستدراج، هو أن فدعة قد تحدت كل الظروف الصعبة واخترقت الحواجز التي تفصل المرأة عن المجتمع الذكوري المفرط في نظرته الدونية للمرأة، والمتزمت في موقفه العام تجاه اي دور للمرأة يمكن ان يتيح لها قدرا من البروز او التقدم او الإتيان بما لا يستطيعه الرجال.
ولهذا فقد لاحظنا أن فدعة قد تفوقت بشكل مثير للدهشة، وباتت قصائدها تستقطب الاسماع، وتشغل الدواوين، وتستوعب الجماعات في مضافاتهم ومنتدياتهم ولقاءاتهم وحواراتهم. ولأن الشاعرة نذرت نفسها لأبيها وأخيها بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، فقد جاءت قصائدها تحمل روح التحدي والأصالة والمصداقية، في زمن المحل والجدب والإنقطاع عن الحضارة والتاريخ والمدنية.
ومن هذا المنطلق فقد رأينا الكثير من رجال المعرفة والثقافة والادب والتاريخ والباحثين في تاريخ الأدب الشعبي، يتناولون هذه الشاعرة ويحللون مواقفها ويعربون عن دهشتهم لما قدمته من اشعار وقصائد، والاسباب معروفة..
ومن اولئك الباحثين الذين كتبوا عن فدعة:
المستشرق جاك بيرك، ذكر فدعة في مؤلفه " العرب بين الامس واليوم "، العلامة المعروف الأب أنستاس ماري الكرملي، الأديب الكبير والباحث القدير الاستاذ كوركيس عواد، الباحث في الادب الشعبي على الخاقاني، الباحث علي البازي، الاستاذ عبد الرزاق الحسني، الدكتور فاضل السعدون، الدكتور عليان الخزعلي، الاستاذ محمد شريف، الدكتور عبد الآله الصائغ، الشاعر والرادود السيد فاضل، الاستاذ عبد العالي شيبة.
كما أننا كتبنا ايضا عن هذه الشاعرة في كتابنا "مباحث في الأدب الشعبي العراقي" حيث أفردنا لها فصلا خاصا حاولنا من خلاله ان ندرج كل ما قرأناه للشاعرة من قصائد قيلت في مناسبات متباينة.