ادب وفن

من «أحلام الرماد» إلى «ثيابها ماء» / مقداد مسعود

الشاعرة سلامة الصالحي، اصدرت منذ 2007 حتى 2015 أربع مجموعات شعرية "أحلام الرماد، ذاكرة جرح، جنوب تنحته الانوثة، ثيابها ماء". والمسافة بين الرماد والماء ، ليست بالمسافة القصيرة ،بل هي نقلة تضاد. فالرماد مستقبل النار ، وفي النار جذوة الحياة المتقدة والرماد لا يتقن الحلم فهو مقترن بالفجيعة والنهايات المقفلة. وقد يتدفق الرماد شعرا نابضا بجماليات الفتنة كما اجترحها الشاعر خليل حاوي في ديوانه "نهر الرماد" ورماد الأحلام من إنتاج السلطات المتعاقبة على عراقنا .أما الأحلام فهي تلك الحرية المثلومة لدى العراقيات والعراقيين.
*
تنتخب قراءتي قصيدة "ارهاصات امرأة" من مجموعتها "جنوب تنحته الأنوثة"
القصيدة تشتغل على سيرورة التضاد الاتصالي، وتأخذ القصيدة شكل فصوص حكم وأقوال مأثورة ...
إرهاصات امرأة
الوهم هو الحقيقة الوحيدة التي عاشرتني
...
حدسي احيانا خطر يبعد عني حجارات طائشة ولذا
فإني أنصت لصوتي الداخلي
دائما فاتبعت رأسي كثيرا .
...
حين غضبت لأول مرة في حياتي كوتني أمي بالنار
ومنذ تلك الظهيرة القائظة
احترقت بداخلي حقيقة ما.
....
الحب بالنسبة للرجل لحظة ساخنة عابرة وللمرأة
عذرية الحياة وبدايتها
....
أسوء ما لفّقه خيال العربي مفردة القبيلة المحدودة
ونسى أن الانسانية قبيلته الحقيقية والكوكب الاخضر بيته الكبير .، ربما قسوة الجغرافيا ،هي التي أملت عليه سرديات القبيلة وجعلت يطوف حولها ويحرسها ليديم حياته هو..
....
عندما تحاصرني الفكرة التي أحبها يجهضها شيطان
أعور اسمه الخوف .
...
عندما حطموا الإناء النذري والدمى السومرية في
متحفنا العتيق تكسرت بداخلي شبعاد التي أحمل ملامحها
وللآن اسمع أنينها
....
عندما انظر في وجه الرجل أجد الوضوح والمكر
والحقيقة , أتذكر كم بي للغموض والعتمة .
أسراري مودعة عند الأشجار ووصيتي أن أموت واقفة
بقربها ".
في هذا جرعات مقبولة من التأمل الفلسفي .. وجرعات من السيرة الذاتية المشعرنة :
حدسي أحيانا يبعد عني حجارات طائشة..
نلاحظ أن الشاعرة سلامة الصالحي ،لاتستقوي ببنات جنسها ، فأقربهن إليها ،تركت رضة ً في الروح ...
"حين غضبت لأول مرة في حياتي كوتني أمي بالنار
ومنذ تلك الظهيرة القائظة
احترقت في داخلي حقيقة ما.. هذا هو وجه آخر للأم
*
تفكك الشاعرة سلامة الصالحي، شفرة ثريا المجموعة "ثيابها ماء"، تفكيكا شعريا من خلال قصيدتها "ثياب الروح"
"حين تفشي الروح أسرارها
وتمنح شفرة ولوجها البعيد
تبدو كل ثيابها من ماء
الماء ينتزع الماء
حتى لكأنها الماء ذاته..
الماء هنا لا ينبجس حيا بيقظة مطلقة، إلاّ بمشروطية تحوّل المخفي الساكن ، إلى متحرك معلن، إذن انبجاس الأسرار يقابله انبجاس الماء، وهنا يتماهى انبجاسان: تنبجس الأسرار في انبجاس الماء، والمشروطية بصيغة مثنوي: تفشي/ تمنح ومن خلال التماهي يكون ولوج الروح وانتزاع الماء للماء !!هل الأسرار: ماء الروح ؟ وكيف تحول الذاتي بفعل الماء: موضوعا؟ "حتى لكأنها الماء ذاته".. وهناك الماء الماكر، وهو بين وظيفتيّ الكتمان/ الإفشاء الخاص ..
"المرآة ...ماكرة
تختزن أسرار النساء
وحين أباغتها بالسؤال
من منا شاخ وباع عذابات الروح
تهمس
أنت أنت "..
وهناك الماء / الرحم
"جنوبية أنا
أنجبني الماء
وعمدتني أمي برحيق التمر "..
والماء هو الماء، فالأخضر والأسود: الماء هو الماء :
"والأرض الخضراء امرأة يتدفق من ثدييها الماء - قصيدة ،،دوائر / جنوب تنحته الأنوثة"
والقمر ، ستكون "الظلمة عباءته السوداء يبدو كالنقطة فيها كالماء .."
*
تتنوع البدايات في قصائد "ثيابها ماء"...
"أبدأ بعينيك أول المسافات
التي تؤدي إلى رؤية الله"..
"أبدأ النهار
بضوء نبرتك العميقة"
"أبدأ حكاية أول النهار
بوجهك النائم في عيني
"أبدئي بأول القبل
ولينتهي العالم
على ضفتي الحلم".
*
أبدأ الصباح
بسؤال...
أين اختفى كل ذلك الليل".
والسؤال هنا هو: هل اختفى الليل بفجر ضحكة ٍ آسرة ،كما جاء في "ضحكة".
وأختتم الليل
بفجر ضحكتك الآسرة".
حين نتأمل هذه البدايات ، سنراها مثنوية : بدء / ختام ، ثانيا بتوقيت البدء يكون استقواء الذات بالآخر المتمم لذاتيتي فالنص لا يقول قولة أدونيس "مسافرٌ تركت وجهي على زجاج قنديلي ، خريطة أرض بلا خالق والرفض إنجيلي"، والبدء لا يتخذ صيغة جمعية كما يعلن سميح القاسم
"أبداً على هذا الطريق
أبداً على هذا الطريق ،راياتنا بصر الضرير
وصوتنا أمل الغريق"..
في قصائد الشاعرة سلامة الصالحي ، بدء الأنثى يستقوي بحضور الذكر كمثال أعلى ، فمن خلال عينيّ الرجل ستحصل الأنثى على "رؤية الله" وحين تعبر الأنثى الينابيع السردية ، فإن الذكر وبشهادة الأنثى "دمعك نسغ الله"، في البداية الثانية يحدث الأمر نفسه ، فنهار الأنثى لا يسطع بالشمس ، بل يبدأ بضوء الرجل ويختتم بضحكة الرجل نفسه ...
"أبدأ النهار
بضوء نبرتك العميقة
وأختتم الليل
بفجر ضحكتك الآسرة".
ويسطع الأنا المثالي الذكوري المطلق ، والحكاية نفسها البدء / الختام ..
"أبدأ حكاية أول النهار
بوجهك النائم في عيني
وأختم الحكاية
بهذيان عينيك
حين يبدأ الله
تنهمر منهما
ينابيع ينابيع".
في البدء الخامس ينتقل الكلام كأنما المثال الاعلى الذكوري هو الذي يخاطب الأنثى، بخصوص كيفية الإستقواء الوجودي :
"أبدئي بأول القبل
ولينتهي العالم".
*
المرأة تستقوي بالأنا الأعلى الذكوري ،وبشهادة الشاعرة سلامة الصالحي
"الكون ذكر عملاق يحتضن أشياءه الأنثى.. جنوب تنحته الأنوثة"، الأنثى الوليدة للتو ، يتنازع على تسميتها أثنان من أقرب المقربين لهذه الأنثى ، ويكشف النزاع الهوية الأيدلوجية / الطبقية للمتنازعين ،فالخال الشيوعي وبشهادة الشاعرة
"أسماني خالي الشيوعي سلام". وسبب التسمية أن السلام "شحيح في العراق".
لكن الأب الإقطاعي اختار اسما يتراسل مرآويا مع الأنا الأعلى لأنثاه هو
"فأعترض أبي الإقطاعي وشدد اللام إرضاء
لصديقته المطربة زهور حسين
وأغنيتها العتيدة
سلمى يا سلامة
ونهض متشفيا بخالي الملحد
كما كان ينعته دائما
وقال أسمها سلامه .."
نلاحظ ان المحذوف من حق التسمية هي الأم! .. وكلاهما : الشيوعي والإقطاعي ، لم يستمعا لرغبة الأم بماذا تريد ان تسمي ابنتها... وهذه الأم تختلف تماما عن "قارورة الضوء" إحدى قصائد مجموعتها "جنوب تنحته الأنوثة" .. في قارورة الضوء يكون رداء الأم من بياض الفجر
*
الأبوة تنبجس كالينابيع فهي الفيء وطوق أمان الابنة المقاتلة "أقاتل من أجل لؤلؤة"، والابنة هنا تواصل التحصن بالثمين وتتبادل التراسل مع تلك الذات كمثال أعلى ..
"أنيق تبدو
مثل روحي التائقة
للملمة الماس
المنثور حولك".
ولا يمكن الوصول إلى هذه الحيازة الغالية الثمينة بالقوة الذاتية ،بل لابد من شحنات موجبة عالية الجودة ، وهي شحنات مثنوية الجهة : خارجية / داخلية ، فهي خارج قوة النفس وفي الوقت نفسه هي في النفس أيضا ، في وعي الذات ولاوعيها الجمعي ..
"وأنت المضيء بينه
منذ أول الوعي
واللغة الأولى
والأسئلة
وجدتك في رحم أمي
تبتسم لظهوري".. والذات الأنثوية تومئ إلى ينابيع حياتها في عتبة نصية / إهداء المجموعة الشعرية .."إلى معلمي وضوء عيوني عبد العزيز الصالحي"، وثمة تراسل للعيون يؤدي إلى التجسير صوب مطلق المطلق
"أبدأ بعينيك أول المسافات ..
التي تؤدي إلى رؤية الله
اعبر الينابيع السرمدية .."
ثم تتدفق الينابيع في المتن الشعري :
"وإذ تتفيأ روحي ظلك
يصير المدى وجهتي الوحيدة
المؤدية إلى متاهاتك ".
أما الأم فهي بوظيفة واحدة (تظهر أمي توزع غضبها ماء ً وحكايات .."
"تظهر أمي كل ألف سنة
تسرقها الأحزان .."
*
اليد تجسيد لمثالٍ أعلى ..واليد تنوب عن صاحبها وبها تكون الكفاية ..
"يدك التي تفرش السماء لي
سجادة حمراء "
"ويدك مانحة الينابيع ".
"يده بيضاء يخرجها من غير سوء.."
"حين أوقدت له أصابعي
كان يتلذذ برائحة الشواء..".
"وكل يد قبالتها
تحمل التواقيع الأخيرة للدماء "
"وسوى ارتعاشه يدك
لا جنة هناك
ولا نار موقدة
صلاة بين كفيك ".
*
استقواء الأنثى بالأنا الرجولي الأعلى ،يعيدني إلى هيمنة الرجل في "أحلام الرماد" مجموعتها الشعرية الأولى ..
"أنت الشاعر ُ والقصيدة
وأعظم قبائل الوطن
وأنا اللاجئة نحوك
شوقاً إليك
فهاك روحي وديعة ".
وهناك انتظار لهذه الأنا الرجولية المتسببة في تبديد حياة الأنثى ، وشاهدنا في هذا الاستقراء هو قصيدة "في انتظار غودو ثانية " وتحديداَ، ما جاء في إهداء القصيدة "إلى حياة ضاعت في تخوم الانتظار" .. ومفتتح القصيدة يعاضد ما وصلت إليه قراءتنا
"على رصيف مبهم
تأكله نار سنين مسرعة ٍ
جلست تترقب عودته
الملك الجبار يسجل آخر فتوحاته ".
ولا يختلف الملك الجبار عن "أمير الانتظار" في مجموعتها الشعرية "جنوب تنحته الأنوثة" والقصيدة لها وظيفة إنشاد المرتجى المؤجل
"أقبلّ
أنا لست خائفة
طفولتي بحر تتيه به
إيامك أراجيح انتظار وصولة
اقبل
أعرف أي لغة تحت عباءتك
أي اعتراف ..".
كما أن قصيدة الشاعرة سلامة الصالحي حول غودو، تحيلني إلى القصيدة الديوان "غيمة الشيطان" في النصين ثمة شخصية رجولية محورية ، تطوف حوله الأنثى .. تنتهي الغيمة بالأسطر التالية
"فكنت لي مرثية الوجود
عبرة العبر
غيمة الأغر مبللة بالنار والندم
فأحرقت الوصايا وصادرت الزمن".
في حين تنهي "في انتظار غودو ثانية" تتجاور في النهاية ذاتها
"أتفاجأ ..الملك الأسطورة
وفتوحات سماواته
كانت غيماً عابرا
محض هراء
لا يمطر
لا يسقي أخضر
لا ينبت يابس
الملك شبح آخر كان
راح العمر خسارة"..
وهذه الخيبة تجسدها قصيدة "مطرك" في مجموعتها الشعرية "جنوب تنحته الأنوثة" :
"أرتضي كل هذا لو أن مطرك جاء ".
*
في مجموعتها الشعرية "جنوب تنحته الأنوثة" استوقفني تاريخ كتابة قصيدة "قارورة الضوء" وسأضعه بين قوسين "30/ 7/ 1984" وأثبت ُ جواره سنة إصدار ديوانها الأخير ثيابها ماء/ 2015 ولنقل القصائد مكتوبة قبل تاريخ الاصدار طبعا .. أرى ان التجربة الشعرية للشاعرة سلامة الصالحي ، استغرقت أكثر من ربع قرن ، ازدادت فيها خبرة الشاعرة في الشعر وفي الحياة وزيادة الخبرة تغوي الشاعرة – هكذا أفترض – بتفعيل التجاوز الشعري لشعرها بخطوات أوسع ، ومن خلال طاقتها الشعرية الجميلة .. وأرى في وعي التجاوز الشعري ضرورة لا فكاك منها بالنسبة للشاعرة سلامة الصالحي التي اثرت المكتبة الشعرية العراقية بخمس مجموعاتها شعرية ، جعلت النقد العراقي يسلط ضوءا تستحقه الشاعرة على مجهودها ..