ادب وفن

فصل من رواية جاسم المطير الاخيرة بعنوان:داعشتاين

بيان رقم (1) صادر في ورقةٍ مرميةٍ على الأرض.
على حين غرة ظهرت شهرزاد ، مرة أخرى، تحمل علامات الشمس والقمر والكواكب والنجوم ، تحمل في روحها قلق ما غيره من قلق. كأن روحها في زهق. خوف مما تتوقع أن ينزل بالعالم من اجرام وغمام . واصلت حديثها بكلام تتمنى ان يثقل قلوب السامعين بالحذر الذي هو وسيلة من وسائل النجاة قائلة بصريح العبارة والكلام :
o جنّ جنون الحكومة العراقية والبرلمان العراقي والجيش العراقي والشرطة الاتحادية، حين أصبح أبو بكر البغدادي أكثر سعادة معلناً نفسه خليفة الله في كهف ما منعزل بمدينة الموصل، حوله صخور متفجرة ،تُكسّر رؤوس الناس أو تجبرهم على النزوح إلى حياةٍ ليس فيها أدنى كرامة. صار ولع الحكومة وجيشها منعزلاً في صحراء قاسية، يتسلق قادتهم شبابيك الشاشات التلفزيونية لإطلاق التهديدات والكلمات المحتاجة إلى مفسّر أو مترجم كي يفهمها الناس . راحوا يضجّون هادرين بطلب الانتقام لضحايا سقطوا في سوح الكفاح بوجه الإرهاب والإرهابيين من الذين استقبلهم المرج الأخضر في جيش وقوات مسلحة، عديدة الاشكال والتشكيلات، كثيرة الأسماء والمسميات، مقابل مخلوق يرتدي ملابس عميقة السواد بكلام متعدد التفعيلات ، يريد أن يثب من مدن أعالي نهر دجلة الى اسفله. عباداته متربة ومعاملاته متهرئة واسمه داعش. اسم غريب عجيب بوجوهٍ قروية وحضرية ،شرقية وغربية. عناصر مغبرة ليس فيها مسحة من ضوء، تعلن ،بقوة السلاح ، أن الاسم الغريب داعش، يريد أن يتسبب في استئصال حياة كل إنسان لا يستمع لتحذيرهم المتغطرس الراعش، باعتبارهم سفراء يمثلون الله على الأرض، مهمتهم العودة بالناس إلى وراء وتكوين إشكالية حياتية مصطنعة لشعوب الشرق. ليس بحظٍ سعيدً ، كما قال قارئ الطالع، أنّ الذين لا يؤمنون بعقيدتهم يمكن أن يحلّوا ضيوفاً بساحة كل جريمة فردية أو جماعية مكرسة للموت ، يقطعون رؤوسهم بدلاً من قطع رؤوس الافاعي نذراً لراياتهم السود.
أكدّ فتّاح فال من نينوى ومستطلع النجوم في قناة تلفزيونية فضائية أن اسم تنظيم الدولة الإسلامية اصبح زمردة في نينوى. من يبايعها وينطق باسمها يشع الفجر ببيته بين عائلته. من ينطق بكلمة داعش يقطع رأسه ليؤنس جميع الأفاعي المقطوعة الرؤوس، من الذكور والاناث.
لا أحد من رئاسات الدولة العراقية ولا من أحزابها ولا من رجال عشائرها يستطيع أن يتخذ قراراً حربياً هجومياً لتحرير أجزاء من أرض الوطن من قبضتهم السوداء..
قادة دول أخرى، كبرى وصغرى، مثل الغول الامريكي ولوفياثان البحر البريطاني والإله الناعم الفرنسي والرب الصارخ الالماني وغيرهم من ناصعي البياض والعيون الزرق، كلهم يتمتمون بكثير من كلام تحالف دولي مع العراق.. يفكرون ، أيضاً، بقطع رؤوس الافاعي السود خوفاً من سمومها المنتشرة سريعاً بكل مكان.
راحوا يجذّفون من البحر الأحمر والأبيض والأسود بتهديدات صواريخهم لدكّ سلاح الدولة الإسلامية وكهوفها في بلاد الرافدين والشام بقصد القضاء على الأفاعي وقطع رؤوسها. قادة تلك الدول يتحدثون بفخر عن سياستهم تجاه عنف وإرهاب وجرائم داعش، لكن قادة عراقيين ظلوا منزعجين كثيراً. صاروا يفهمون أو لا يفهمون.. لا أحد يدري. صاروا يبصرون أو لا يبصرون.. لا أحد يدري. صاروا يسمعون أو لا يسمعون.. لا أحد يدري. هل هم مبتهجون أو بائسون.. لا أحد يدري. ارتعبوا من تنين اسود.. كلمونا بكلام ٍ ساذج أو مخادع أو خائف بعيد عن الطريق القويم المستقيم بأمثالٍ جميعها حق أو بعضها باطل. لا ندري.
قال الرئيس بتصريح تلفزيوني احمر كما يصرح الملوك والسادة العظام :
o لم يحصل ما حصل لولا فرصة نادرة أتيحت من مواقف دول كبرى للإرهابيين الصغار.
قادة احزاب اسلامية في دولتنا ودول صغرى قالوا بحزنٍ شديدٍ، بوجوه مغطاة بأقنعة فيها ملامح متغطرسة:
o رياح أمريكان واسرائيليين وسعوديين وقطريين وأتراك جاءت بالأعداء إلى الموصل والرمادي.
بعضهم قال أن دولة إيران الإسلامية منعتْ جارها حق الانتقال من الظلام إلى النور.
برلمانيون كثيرون من اعضاء دورات سابقة وحالية قالوا بصوت يشبه اصوات الديكة الهندية:
o نحن نتهم كل دولة تلبست بالشيطان أو صارت تابعة للإرهاب والإرهابيين.
بعضهم يختنق بالحزن الشديد والغضب الجامح على مسؤولين عراقيين في الجيش والحكومة، متفوهين باتهامات حول صفقة لبيع مدينة الموصل إلى داعشتاين. تدفق كلامهم الحزين بوقعٍ متزنٍ أحيانا وغير متزن أحيانا أخرى، مؤدب أحيانا وغير مؤدب في أحيانٍ أخرى، لكن لم يوضح أحد ، حتى الآن، كيف أن جيش الداعشتانيين استطاع ان يحتل مدينة الموصل بحفنة من الساعات، بهيمنةٍ من حفنة مسلحين، اشرقت عليهم شمس ، أضاءت عرقاً عريقاً من احساس مجموعة من أناس مغامرين، كأنهم همج، يدّعون أنهم هدية من الله إلى المسلمين من سكان الشرق العربي وغير العربي، رافعين مناديل كبيرة سوداء مكتوب فيها لا إله إلاّ الله محمد رسول الله. الكلمة عندهم رصاصة والفعل عندهم قتل الناس غير المؤمنين بهم وبما يدعون به من عصمة الله .
أوجهٌ مغطاة بقناع لا يراه أحد إلاّ ويصاب بالذهول والرعب لأنه مرغم على رؤية وحش يسعى لعقاب الناس كبرهانٍ أحمقٍ على قتل النساء بعد اغتصابهن من دون التنصل من مسؤولية الاغتصاب والقتل. تخيلهم وصف المستشرق جون باير من حملة فؤوس حادة يقطعون بها رؤوس البشر، مثلما تقطع بها رؤوس الافاعي المسؤولة عن نزول آدم وحواء من الجنة من دون تعب وإجهاد . متعتهم هذه يعقبها تناول وجبة فطور أو غداء على مائدة مليئة بأطايب الطعام وهم بحالة كئيبة وحشية. من المعقول جداً أن تكتمل المتعة حين يتحول الذكر الملثم إلى نمر يفترس فتاة يزيدية مأسورة أو امرأة مسيحية ينال من جسدها ما يشاء، ثم تكتمل المتعة بقطع رؤوس كل واحدة من الضحايا ، حتى صار كثير من الناس المتدينين في شمال العراق وغربه وفي شمال سوريا وشرقها حزانى على نساء يزيديات مأسورات للنكاح، بيعاً وشراءً ومزايدةً أو للذبح كالماعز. كثير من قادة فوّضهم الله ، كما يقولون عن انفسهم أو لم يفوّضهم كما نقول نحن السذج ، يتحدثون عن تعاليم الشرف والشهامة العربية الدينية . صار الناس يكررون قراءة دعاء اهل الثغور ،ليلاً ونهاراً . دعاء ليس لديهم غيره ، دعاء بديل عن سلاح ودواء ، عسى أن يزيل الاشواك من عيونهم وأبدانهم، رافعين أياديهم إلى السماء طالبين من الله أن يرحّل اعداء الإسلام عن البلاد المسلمة وأن يُغرق سفنهم في نهري دجلة والفرات. يستشعرون الأمان والنصر بدعاءٍ انطلق من جامع دير الزور يُتلى ،كل نهار وليل، في جوامع بغداد والكاظمية والبصرة والنجف والناصرية وكربلاء والسماوة والديوانية وأمام الطلبة والعسكريين في جامعاتها ومعسكراتها ،على شاشات العديد من التلفزيونات، حيث يعاد إنشاد دعاء اهل الثغور مؤملين أنّ الدعاء يستجاب فوراً من رب العالمين برفع مكانتهم وانهاء مآسيهم بمعاونة ملائكة ينقلون دعاءهم من دون أن يتضاحكوا أو يتعابثوا ليقبضوا على خناقِ دواعش ولثم أفواههم واقدامهم وأكفّهم بحجر ناري من سجيل.
في خفة متناهية وثب حكامٌ في العاصمة بغداد ، بما فيهم حكام لا يساوون شروى نقير، لا يستحون من وصف انفسهم بمراتب عليا عند الله ورسله ، يركعون بهوان، طالبين من الله وملائكته حمايتهم و توفير الأمان لهم ولعائلاتهم بكل مكان. كل مساء ،بعد صلاة المغرب، يغالبون أمواج فرقان داعشتاين، باسطين أياديهم، في مساحة يطلقون عليها اسم المنطقة الخضراء ، إلى رب السموات والأرض قائلين بخشوعٍ وركوعٍ بقلب معمود ولطم على الخدود ناشدين سماء المعبود :
o أَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَحَصِّنْ ثُغُورَ الْمُسْلِمِينَ بِعِزَّتِكَ، وَأَيِّدْ حُمَاتَهَا بِقُوَّتِكَ، وَأَسْبغَ عَطَايَاهُمْ مِنْ جِدَتِكَ. أللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَكَثِّرْ عِدَّتَهُمْ، وَاشْحَذْ أَسْلِحَتَهُمْ، وَاحْرُسْ حَوْزَتَهُمْ، وَامْنَعْ حَوْمَتَهُمْ، وَأَلِّفْ جَمْعَهُمْ، وَدَبِّرْ أَمْرَهُمْ، وَوَاتِرْ بَيْنَ مِيَرِهِمْ، وَتَوَحَّدْ بِكِفَايَةِ مَؤَنِهِمْ، وَاعْضُدْهُمْ بِالنَّصْرِ، وَأَعْنِهُمْ بِالصَّبْرِ، وَالْطُفْ لَهُمْ فِي الْمَكْرِ. أَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَعَرِّفْهُمْ مَا يَجْهَلُونَ، وَعَلِّمْهُمْ مَا لاَ يَعْلَمُونَ، وَبَصِّرْهُمْ مَا لاَ يُبْصِرُونَ. أللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَنْسِهِمْ عِنْدَ لقائهم الْعَدُوَّ ذِكْرَ دُنْيَاهُمُ الْخَدَّاعَةِ الْغَرُورِ، وَامْحُ عَنْ قُلُوبِهِمْ خَطَرَاتِ الْمَالِ الْفَتُونِ، وَاجْعَلِ الْجَنَّةَ نَصْبَ أَعْيُنِهِمْ وَلَوِّحْ مِنْهَا لأِبْصَارِهِمْ مَا أَعْدَدْتَ فِيهَا مِنْ مَسَاكِنِ الْخُلْدِ وَمَنَازِلِ الْكَرَامَةِ وَالْحُورِ الْحِسَانِ وَالأَنْهَارِ الْمُطَّرِدَةِ بِأَنْوَاعِ الأَشْرِبَـةِ ، وَالأَشْجَارِ الْمُتَدَلِّيَةِ بِصُنُوفِ الثَّمَرِ، حَتَّى لاَ يَهُمَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالأدْبَارِ، وَلا يُحَدِّثَ نَفْسَهُ عَنْ قِرْنِهِ بِفِرَار. أللَّهُمَّ افْلُلْ بِذَلِـكَ عَدُوَّهُمْ، وَاقْلِمْ عَنْهُمْ أَظْفَارَهُمْ، وَفَرِّقْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَسْلِحَتِهِمْ ، وَاخْلَعْ وَثَائِقَ أَفْئِدَتِهِمْ، وَبَاعِدْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَزْوِدَتِهِمْ، وَحَيِّرْهُمْ فِي سُبُلِهِمْ، وَضَلِّلْهُمْ عَنْ وَجْهِهِمْ، وَاقْـطَعْ عَنْهُمُ الْمَدَدَ وَانْقُصْ مِنْهُمُ الْعَدَدَ، وَامْلاْ أَفْئِدَتَهُمُ الرُّعْبَ، وَاقْبِضْ أَيْـدِيَهُمْ عَنِ البَسْطِ، وَاخْـزِمْ أَلْسِنَتَهُمْ عَنِ النُّطْقِ، وَشَرِّدْ بهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ، وَنَكِّلْ بِهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ، وَاقْـطَعْ بِخِزْيِهِمْ أَطْمَـاعَ مَنْ بَعْدَهُمْ.
ظل دعاء الثغور مطرقاً تارة، مرتفعا تارة أخرى بلسانِ من لا يدافع عن نفسه بالسيوف والدروع بعد انحلال الجيش وتفكيك وحداته وتبعثر سلاحه.
بكل جامع تسمع دعاء أهل الثغور.. بكل مدرسة تجد على جدرانها ملصقات دعاء أهل الثغور. ما أن تصعد سيارة تاكسي حتى تسمع الراديو أو السي دي منطلقين بإذاعة دعاء أهل الثغور. صار صوت كل فرد دعاءً يهتف فرحاً باسم السماء ،مناشداً السماء، لكنه لا يرى شيئاً في السماء ولم ينل مجداً من السماء . فيهم من يتخيل أو يعتقد أن الله يعينه بارتقاء سلّم الصعود أعلى واعلى إلى مركزٍ يناطح السحاب بعد اختياره وتعيينه بمنصب الوصي، القيم على شؤون الرعية وبيت المال . إنه المتفضل على الجميع بقبوله منصب القيمومة العليا على الشعب ،كله. يظن، برضا تام، أن الله أراده بهذا الموضع تمهيداً لتهيئة حفل زفافه مع قريبة قلبه إلى جنّات الخلد حيث قوارير الخمر وحور العِين .
لم تلتبس الأمور على شهرزاد ، بل وجدت نفسها مع مرور وجودها على بساط الريح أنها بغاية اليقظة والنشاط وأنها منتبهة الى كل حال تشاهده وإلى كل منزلةٍ وحدث يبلغها وإلى كل عمل من اعمال السلف المدجج بالسلاح الاسود .
هكذا هو الحال ببلاد العراق في القرن المسمى بالواحد والعشرين ميلاديا وبالخامس عشر هجرياً، جعل الناس سكرانين من دون شراب، دائخين بكل عذاب، يبحثون بأزقة ضيقة عن سراب. لم يهتد الناس فيها إلى حدائق حرة سمعوا بها من أوقات الشرور والظلمة بأنها قادرة على أن تغسل نجاسة الافكار السوداء لتحقق ابتهاج الناس أجمعين بفكرةٍ محرومين منها، لكنها مشاعة في العالم، اسمها محبة. بلغة اجنبية غربية يُقال أن اسمها ديمقراطية، يقولون أنها تحمل كمال الشرعية الشرقية .
وجهتْ شهرزاد سؤالا كبيراً :
متى يدرك الناس في بلاد الرافدين حقيقة أنه ما ابتهجت أرض إلاّ بعرق ودماء ابنائها المساكين، ما ابتهجت يوماً بحكامها المترنحين بين القسوة والرشوة، بين فقدان الرشد والاستلقاء أمام الاجنبي أذلاّء من دون حياء. ما استيقظت أرض في غابر الأزمان ولن تستيقظ واثقة بنفسها إلاّ بعقول ونور العالمين الفاهمين القائلين :
o لنذهب ،معاً، إلى مستقبلٍ تغمر فيه مياه الوديان قمم الجبال.
مثل هؤلاء القائلين إما نادرين بوجودهم أو عاجزين عن الأفعال. متعتهم الوحيدة ، حك ظهورهم .
لم يخجل حكام اقترفوا بحق شعبهم رجساً على مرّ العصور. سرقوا وقتلوا وارتكبوا كل انواع الموبقات بموهبة القدرة على سفك دماء بريئة اختلطت بمياه الرافدين.
لم ينتجوا باسم الله غير أحزان ومصائب وأهوال لا تعد ولا تحصى.
فجأة ظهر جنيّ اسود أمام نظر شهرزاد قائلا لها:
o كنت أنوي اختطافك للحظوة بجمالك لولا أنني سمعتُ منك كلام الصدق والحق فصرفتُ النظر عن ارتكاب جريمة.
توقفتْ شهرزاد عن الكلام المباح حين وضع الجني رأسه على ركبتيها ونام حال طلوع الصباح.