ادب وفن

مصطفى عبد الله.. منجم شعر أفل قبل الأوان / جواد وادي

كثيرا ما تبادر إلى ذهني سؤال لا بتجرده عن زمنه، بل من ذات اللحظة وأنا اسامر الشاعر في أوقات تواجدنا معا، حين كان يسكن في شارع علال بن عبد الله في الرباط العاصمة، سؤال يستوقفني كثيرا، وأنا أحاول أن أجد له تفسيرا منطقيا من خلال اعجابي الشديد بهذه التجربة المتميزة حقا، هل يمكن لوقار المبدع وتكوينه المتزن أن ينعكس على نصه الإبداعي ويمكّنه من إنتاج نصوص تشعر عند قراءتها بالكثير من التريث والقسوة في انتقاء المفردة ثم الجملة الشعرية فتجد نفسك كقارئ مسكون بالكتابة الرصينة والوازنة أمام شاعر لا يتساهل أبدا مع نصه الإبداعي حتى وان اضطره هذا الأمر إلى أن يعزف عن الكتابة إن لم يقتنع بما يكتب، بخلاف النص الطائش أو المكتوب بطريقة عجلى ودون تمحيص لمجرد انه ينزع إلى الشهرة الفاقعة وبالتالي ينتهي من حيث يبدأ؟
وهذا الكلام مقتبس من كلام الشاعر الفقيد، حين كنا معا في الرباط عاصمة المملكة المغربية، باحثين عن عمل في نهاية السبعينات، وتحديدا عام 1978
أوصلني هذا التأمل إلى الجواب الشافي من خلال إنصاتي أولا ثم قراءتي لاحقا نصوص المبدع مصطفى عبد الله، فوجدت ضالتي في القراءة النصية المؤسسة على اشتراطات الكتابة الحقيقية والجادة، حين ابلغ كثيرا في أن يسطّر وجده ومكابداته بصدق نادر وروية واضحة ووفية لنصه الذي أراده أن يمتلك مواصفات تحترم ذوق المتلقي، والعنوان يحيلنا إلى مواجد الشاعر التي وبنقاء، قد سطّرها خفية ووجدا ووفاء لمن يحب من مخلوقات تركت بصمات إنسانية على تكوينه الشخصي والمعرفي، ولا غرو في ذلك حين يقترب القارئ من شخصية المبدع بكل تفاصيلها الفاتنة لتعود القراءة أكثر بهاء و ألقا، والأمر الآخر، أن عنوان الديوان "الأجنبي الجميل" قد وصلتني نصوصه قبل صدوره بكثير حين نالت بعض قصائد المجموعة، اهتماما ملحوظا في العراق نتذكر ما قاله الشاعر سعدي يوسف من اشادة فاتنة عن هذه التجربة الغنية والواعدة في وقتها آنذاك، ناهيك ان الشاعر شديد التعلق بهذه النصوص التي تشعر وهو يرتلها في المناسبات العديدة، أنها باتت تشكل ظلا يلازمه فيهنأ في قراءتها بوجد غامر.
النصوص التي ضمها الديوان هي خزين إنساني بامتياز، ذلك أنك، قلما تجد نصا غير مهدىً إلى والديه أو إلى صديق أو أخ أو معلم أو شاعر أو مخلوق مرّ في حياته وترك لمسة حنان ولحظة دفء، دون أن يجتثها من التربة التي ندفتها النصوص والزمن الذي أحالها إلى وهج لحظي ظل ملازما لحياته تاركا أجمل الذكريات في حله وترحاله، واللافت حضور الأمكنة لمدينته البصرة بقوة، بتشخيص ذهني شديد التعلق بالبدايات الأولى، مغرق بالبوح والوجد والعشق الآسر.
كيف يختار الشاعر نصا من نصوص المجموعة ليزيّن به غلاف الديوان؟ الشعراء وحدهم يعرفون الإجابة، فالاختيار ليس عبثا أو لعبة نرد، إنما لا بد أن يكون للنص وقع خاص على نفس الشاعر، وحين نتمعن النصوص جيدا نجد الإجابة الشافية حين يسترسل الشاعر في نصه:
أنا الأجنبي
عرفت حدودي
فرتّبتُ لي وطنا من ورق
ـ إنه علبة للسجائرـ
وحين يباغتني في المقاهي القلق
ويتبعني مثل عود الثقاب
ألم متاعي وأشعل سيجارتي
ثم أمضي،
خفيفا،
بما يحترق...!
شخصيا أعتبر هذه القصيدة مرثية فاجعة لكل العراقيين المبتلين بالمنافي والمشردين في أصقاع الكون وما يكابدونه من يتم وفقدان وملاذات وخوف من الآتي، لأن الشاعر في توجس دائم كهذا ما دامت قدماه لا تشعران بالأمان والطمأنينة وهو في أرض غير أرضه وأهل ما هم بأهله.
تلك هي الرصانة الشعرية التي أسلفنا ذكرها حين يوحّد الشاعر بين الكلمة الراعفة، والخوف من الآتي، والوعي المتنامي بهلع اللحظة ليؤسس نصا بهذه الحفاوة الشعرية الشديدة التركيز.
التحدي لا يأتي بسل السيف ولعلعة الرصاص، بل بالإصرار على أن ينكأ الجروح فيحولها إلى منافذ يستشرف منها على المستقبل حين تكون جزءا من مواجده وتنام في رصيف ذاكرته المتأهبة دائما:
كلنا أتينا صامتين
وعندما فتحنا أفواهنا
اهتز ثم انطفأ المصباح
ترى من يتحمل مثل هذه المشقة حين يمد الشاعر بخيوط الوفاء للحظة ولادته التي اغرقت لحظات حياته لاحقا بأمانيٍ قد تعود سرابا، وقد تلامس رؤاه لتصبح واقعا محسوسا من التوجس والمفاجآت غير المحسوبة.
إن هذا التكثيف الشعري يحيل المتلقي إلى مخلوق فائق الإحساس ليجول في عوالم النص دون استئذان، لان الشاعر أصلا قد سلّمه دفة القيادة في أن يبحر حيث يشاء وكيف يريد.
يا خلوة التابوت
تمهّلي
فكلنا يموت
هذه السوداوية قد لا نجدها في حالات غير عراقية، ليصل الشاعر إلى مرفئه الأخير، مختزلا سنوات وأياما من سني حياته التي قد تكون بهية وقد تمر بحالات من الفرح والحزن، لكن قدر العراقي أن يتصالح مع الموت الذي يصبح في قاموسه طقسا يوميا وقدرا لا مناص منه قد يفاجئه دونما تحذير وقد يختزل كل مجساته لقبول لحظة الوداع الفاجع.
وننسى الرصاص يمر إلى من يشاء
لم نعد نستحي عندما لا نموت
فنحزن ـ لحظة فتح التوابيت حتى تفوت
إنها الحرب فينا
وقد صفقت للسكوت الطويل
هنا بين أعيننا ولسان القتيل
طقس الموت هذا غالبا ما يكون حاضرا بقوة في جل النصوص الشعرية العراقية عموما، وهنا في هذا الديوان لها تناول من التكثيف والاختزال، لتنفرد بحالة سوداوية لا تعتيم فيها تجمع بين السخرية من هذا القدر اللعين وقبول واقع الحال الذي لا مفر منه حين يعود لصيقا في حياة الناس ولا يفرّق بين الأعمار والجنس ومرجعية المكان، بل الكل ينبغي أن يكون مستعدا لحتفه ليداهمه في أية لحظة حيث يكون المرء.
كثيرا ما يبحث المتلقي عن جواب يحاول أن يهدّئ فزعه الدائم في عالم يعجّ بالموت والقتل والحروب وشراسة الإنسان بحق أخيه الإنسان، وتحول البشر إلى مخلوقات مجردة من المحبة، وباتت الوشائج بين الناس تحكمها تفاهات الحياة ورداءتها. ويبقي الشعر هو الملاذ الوحيد للفكاك من ربقة الشر والضغينة وأحقاد البشر بعضهم على بعض، وحين ألج ديوان الشاعر مصطفى عبد الله تداهمني أزاهير عطرة وكرنفالات راقصة ونوارس قابعة في أعشاشها الدافئة، فألثم هذا وأداعب ذاك وأنا أعيش لحظة انتشاء فائق، ولكن سرعان ما تتحول لحظة المسرّة هذه إلى حنين يتفجر فجأة لكثرة حالات الأسى والإحساس بالوحشة التي تحتشد في ديوانه هذا.
في نصه" الرحيل"، يدفعنا الشاعر إلى أن نحبس أنفاسنا ونعصر همومنا لتصبح في قفة واحدة لنتساءل: لماذا هذا التشديد والتذكّر والتناول وحتى الإحساس بالمسرة والشاعر دائم التصالح مع الموت والرحيل والتعلق بالتراب؟
حين خرجتُ
أخفى عني الطين الناشفَ بين جيوبه
ثّم تقدم يسبقني...
حين خرجتُ
وكنت خفيفاً مثل الطير الناشف
أخفيتُ وراء الظهر حقيبة
لا أظن أن شاعرا شديد التعلق بثيمة الموت والتصدي له بروح المقتنع بأنه معرض للرحيل في أية لحظة، فيختار أجمل الحالات وأعذب اللحظات ليتواشج مع فكرة الفراق التي اصبحت قدرا يترصده حتى اختطفه الموت هو ذاته في زهرة شبابه وقمة عطائه. إنها نبوءة يكتنفها الغموض وسر من أسرار الوجود الإنساني وهذا الإحساس الغريب بقرب الرحيل وترقبه، وكأنه ضيف مغادر في أية لحظة. فحدثت الفاجعة.
وهنا ينبغي أن تشع عيوننا بإضاءة الشاعر للنص الذي يحمل عنوان المجموعة، وإلا عادت قراءتنا عبثا لما لها من ألق خاص:
"الأجنبي الجميل"، العنوان الذي يشي بالعديد من التأويلات والإحالات والهموم الدامعة، وهو بحد ذاته صورة لعراقي يتوزع بين الغربة والتغريب والبعاد والحنين والشوق، حاملا قلبه في وعاء خاص كي لا يصله الإخفاق في التعلق بوطنه وترابه وناسه وذكرياته، مع احساسه بجمال روحه وفتنة وجوده، ليخلق ذلك الرابط البهي بين المنفى والجمال، فالمنفى مصدر عذاب وحنين ومكابدة، والجمال إحساس خاص يدفع الشاعر إلى أن يبقى دائم الوفاء لكل تفاصيل وجوده، وهذا الربط الفاطن حالة من التوحد كم يحتاجها العراقي الهائم في أصقاع الكون، ليبقى متشبثا بالأمل، لأنه إن فقد الإحساس بعشق الوطن انتهى أن يتواصل مع الحياة والوضع الذي ربما سيكون طارئا، حينها سيكون أمام حساب عسير مع الذات الشاعرة:
تذكرت أني أتيتُ بدون فمي
وأني تركت لساني الطويل
مع الحبر... في قلمي
أنا الأجنبي تمنيت أن أعترض
ولكنني ما وجدتُ الكلام
إن جميع نصوص المجموعة هي مشاتل خرجت من احتدامات الشاعر في لحظات ليس من الهيّن أن يشعر بوطأتها إلا من يلامس وهجها وسطوتها واتساع مناخاتها وشساعة أحلام الشاعر في أن يوطّن النص في ذات القارئ الممعن في الندية، لاستكناه المحاذير التي أسس عليها الشاعر نصه خوفا من انزلاقات في المتن والرؤيا والإمساك بتلابيب المفردة الشعرية التي قد تشكل لوحدها نزوعا وصفيا يغني النص ويحيل التفاصيل إلى منابت يتحرك بين أريجها القارئ ولا يغادرها إلا وهو يتعكز على ثوابت تلك النصوص التي تتوارى معانيها مرة وتتجلي نوايا الشاعر مرة أخرى، ولكن بأساليب تعويمية يستحلي فيها القارئ المناكد وكأنه برعم غائر وسط هذه المشاتل الغضة.
يكرس الشاعر نصوص المجموعة بكاملها لمدن وأشخاص وأمكنة وذكريات وأسماء وذات محبطة وهائمة مع الوجد واليتم والمكابدة، تقتنص حالات بقيت غائرة في ذاته العاشقة لتلك الأرض وأولئك الناس الطيبين، في نزوع من التوحد في التناول النقي بتوليفات تزيح الكثير من الغموض الذي يتسم به النص الجديد ولا اسميه الحداثي، ولهذا الاختلاف وقته في التعرض له، فقط نؤكد هنا أن نصوص المجموعة تندرج في توصيفها بالدراما المتنوعة العرض والتناول، وهذا الأمر ليس إخفاقا لدى الشاعر في بناء القصيدة بقدر ما هو لحظات من المعايشة الصادقة مع لحظة الكتابة، سيما إذا عرفنا ان النصوص مهداة لبشر منهم من مر في حياة الشاعر ومنهم من ما زال يستوطن وجدانه وإزاء كل هذه المخلوقات الندية التي ظلت تعمّق في ضمير الشاعر، هما وإحساسا غارقا في المعاناة، انه يريد أن يقدم لهؤلاء الناس جميلا كانوا قد أحالوه إلى وديعهم ومدللهم وابنهم البار، فليس من المعقول أن يوسم بالعقوق وهو لا يملك من رد الجميل غير بذرة الروح وينبوع المحبة ليقدمها إلى هؤلاء الرائعين وهو أمر موجع في الوقت ذاته حين يقلّد أحبته هذه الأوسمة والنياشين ويورّثهم اصدق ثمرات وجده فيتخلص من هم يراوده حتى أعتقته الهدايا من عبء المسؤولية فباتت النصوص كلها ملكا صرفا لأصحابها ولهم شأنهم في امتلاكها لتزين مدافن من رحل وبيوت من ما زال يجد في الشاعر ابنا بارا ومخلوقا نديا وحبيبا غارقا في الوفاء.
في نصه المهدى لأبيه، وهنا نشدد على أن المبدع يبقى لصيقا بمن يحب ومن يقدس، ووالده واحد ممن يظل مأسورا بهم:
أمسكتَ حياتَكَ بالمنجل،
وفتحتَ على الشجرِ اليابسِ ماءَ الجدول
في شمس القيظ،
مكشوفَ الرأسِ
أسرعتَ تغطي الشجرَ الغضّ
... أنظُرْ...!
يتأرجحُ عمرك في الحبل المشدود
ما بين الفمَ والدود...!
يا: عبد الله بن الملا حسين.
حنين الشاعر لأمكنة الأصدقاء انشداد وثيق لدفء تلك المزارات المقدسة لأنها ملاذ من يحب وكم يحن الشاعر إليها ليلثم عبق الساكنين في محاريبها.
ما بين الدرب الحار
و "الحوش" الحار
دهليز بارد
علّق فيه الأولاد مناجلهم
وتدلّت طاساتُ الماء
إنه ميس شعري فاتن يظل يرفرف عاليا فوق قامات شاخ بعضها وما زالت تنشد الغناء الجميل بمحبة وتعلق للطفولة الغضة، وأخرى تتجدد ولادة، لأن صفحات الخلق الأولى، والمدونة بمداد العشق والبراءة، لا يمكن ان تمحوها أعاصير الغضب الصفراء.
اقتناص جميل لإحالات يومية لفكر تراجعي دائما "فلاش باك"، يتصدى له الشاعر بتفكه وروح مرحة ليذكّرنا نحن المتعايشين مع هكذا حنين غائر مع أبجدية التكوين الأول كيلا تضيع البوصلة ويبقى الانشداد لها سيد اللحظة.
يتنامى شوق الشاعر لخيمته الظليلة والتي يهديها نصا موجعا وبمكابدات الولد اليتيم الذي فقد اعز مخلوقة "بهية" وهي أمه عندما يفيق من نومه وفرحة العيد تؤنس فراشه، حتى وهو في هذا العمر، لكنه لم يجد تلك المخلوقة التي اعتادت أن توقظه بغنوة حنان ليبدأ عيده الجديد، لكن اللحظة بدونها لا تشبه الحالة الجنائزية.
كيف يتسنى للشاعر أن يعانق أمه حتى وان كان دفئا واهما؟ لكنه يتواصل معها بنشيجه العارم وهو يخط بقلمه محبته ليرسلها إلى حيث تكون في أعلى عليين.
البراعم تتفتح
على رائحة فوطتك
وفي الخطوط التي حفرها على راحتيك
سخام الأواني والسنوات
الشاعر مصطفى عبد الله يتحول إلى نورس وديع يحلق على الأمكنة والأحبة ويتوقف طويلا تحت خيمة أمه لتمنحه الحنان الذي يفتقده في غيابها دون أن ينسى أن يعطّر لحظته بمخاطبة من يحب تلك الأنثى التي تحيله فجأة إلى كائن هائم في الوجد لتخفف من إحساسه اليومي باليتم.
ولك الذكر الطيب فقيدنا أبو يمان الغالي
قمنا بدراسة موسعة عن هذه التجربة الغنية سيتضمنها كتابنا العاشق لقراءات إصدارات الأصدقاء، يصدر قريبا