ادب وفن

السنوات لم تكن لغيري.. كانت لي / قيس مجيد المولى

تشير الدراسات إلى أن المرحلة الأولى للمؤسسين والمنضوين باتجاه الظاهرة الجديدة "قصيدة النثر" والمتمثلة برواد "مجلة شعر" في مرحلتها الأولية تشير أن هناك وجهات نظر مختلفة تتصل بمعطيات هذه الحركة وأبعادها التطبيقية، ولعل فترة الاستحضارات تلك كانت بمثابة التوجه صوب عموميات الشعر لكن المخاض اللاحق كان السعي لتفجير طاقات اللغة ومغادرة الشكل القديم والعديد من أبوابه، ولكي يكون بمقدورنا تصور ذلك الهاجس لدى رواد الحداثة الشعرية لا من خلال تنظيراتهم الشعرية بل بالاطلاع على نماذجهم الشعرية التي لازموا بها مجلة "شعر" لاكتشاف ذلك الخلط ما بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر ،لذلك وجدنا في "جبرا إبراهيم جبرا" ذلك المبتغى لكشف تلك الهواجس،
ففي مطلع الخمسينيات بدأ جبرا إبراهيم جبرا بنشر قصائده التي أسماها أنذاك بـ "الشعر الحر"، لكنها في الشكل وفي المضمون تختلف اختلافا جذريا مع قصيدة نازك وبدر والبياتي سواء موقفها من التعامل مع اللغة أو الأسطورة أو حتى بطريقة كيفية التعامل مع الذات على ضوء الاتجاهات العالمية الجديدة في الفكر والأدب.
كان جبرا يرى أنه لابد من إيضاح مفردات القاموس الجديد وأثار قضايا جوهرية في حركة الشعر ،وكان عضوا رئيسا في هذه الحركة، رغم أنه لم يكن عضوا مؤسسا كحال أدونيس أو يوسف الخال وخليل حاوي ونذير عظمة.
كان حراك جبرا يقع بين وترين،الوتر الذي يرى أن العقل لم يتغير فهو يقع في مدارات الرومانسية المبتذلة وأن القصيدة العربية تقدم نفسها بتنظيم بنائي تناظري وان تطورت ففيها روح البناء القديم ووتر التراث العربي وضرورة الحفاظ على مقوماته وكذلك الانفتاح على الأنماط الغربية دون المساس بمقومات الأمة وحاجة اللغة لموجودات الصراع النفسي لدى الفرد العربي.
لقد رأى جبرا إبراهيم جبرا أن هناك توازيا لافتا للنظر بين معطيات القصيدة العربية ونمطها الغربي وهو يوعز ذلك إلى أن هناك تواصلا مابين الحضارات الحية يصل أحيانا حد التشابه في الصور والمخرجات الأخرى ومنها المخرجات المعرفية الكونية.
ان لقاء جبرا المشترك مع مؤسسي حركة شعر مكن جبرا من تقبل هذه الحركة كونها لا تنفي أهمية التراث العربي،رغم أنها أدارت فيما بعد ظهرها له ، لكنها دعت وضمن بيانها التأسيسي إلى "أن التراث الشعري العربي، وكذلك التراث الثقافي يمثلان كلا تاريخيا لذا وجب فهم هذا التراث فهما عميقا للتمكن من تطويره"، وأعتقد أن مفهوم تلك المقولة في بداية مرحلة التأسيس تدل على شيء ما وفي المرحلة اللاحقة دلت على أشياء أخرى منافية تماما لما كان يجول في تراث جبرا التنظيري عن التجديد في الشعر العربي، إذ أن الأولوية الآن وبحسب ما عبر عنها يوسف الخال هي التعامل مع التراث الإنساني والانطلاق من هذا التراث لرسم الأبعاد الشعرية المطلوبة ذات المناخات المتعددة ، وقبله أشار أدونيس إلى ذلك "ان الشاعر العربي المعاصر يعرف أن موروثه العربي ليس إلا جزءا من موروث آخر"، وأن الدخول الى الموروث الآخر هو الذي سيساعده على مواجهة الموت.
ان جبرا يرى أن الحضارة العربية لها خصوصية في النشاءة والتكوين وهي حضارة ليست مكتسبة من حضارات أخرى بل كونها رافدا مهما للحضارات وهو في الوقت نفسه لا ينكر أهمية الحضارات الأخرى وما أفرزت من ثقافات وبنى فكرية واقتصادية واجتماعية وسياسية بما في ذلك كل ما يتعلق بالأنظمة والتشريعات.
ان البيان التأسيسي "بيان يوسف الخال" قد وضع أسس الشعرية الجديدة "التعبير عن التجربة الحياتية – الصور الحية – إبدال التعابير القديمة – تطوير الإيقاع – أولوية الإنسان في الصراع – وعي التراث الروحي – الإفادة من التجارب العالمية".
لقد وضع جبرا إبراهيم جبرا رؤيته الشعرية لتلك المرحلة حين رأى ومقدما لمجموعته الشعرية "تموز في المدينة" بقوله "ان حصيلة الشعر هي إغناء البشرية روحا وخيالا وتجديد قدراتها للمزيد من غزارة الحياة وللمزيد من التأمل تأكيدا لوعي الإنسان".
لقد قدم خصوصيته الشعرية والتي بلا شك كانت أحد روافد المساهمات الجادة في الحركة الشعرية الجديدة.
ولا عجب حين يقول الشاعر توفيق صايغ عما كتبه جبرا "لو فرضت علي الإقامة في جزيرة صحراوية ومسموحا لي بعشرة كتب فقط لجعلت أحد هذه الكتب تموز في المدينة".
ولد جبرا ونشأ في فلسطين ، له العديد من الأعمال الشعرية والروائية والنقدية الفنية كما ترجم شكسبير وكذلك وليم فوكنر،عند قدومه الى بغداد كان يرى فيه الأدباء والمثقفون العراقيون الانعطافة الحقيقية في الشعر والرسم والنقد وهم يرون جديته في تخطي واقع الأدب العربي إذ يقول جبرا ضمن سجالات نواة الحداثة آنذاك "إن إدخال نغمة جديدة على فن قديم يعتمد موسيقى تقليدية ، أمر يحتاج إلى جرأة وقدر كبير من القدرة والبراعة"، ولاشك بأن موجوداته المتنوعة والتي حملت بيئات مختلفة "فلسطين – العراق – بريطانيا – أمريكا"، وكذلك موجوداته الاستكشافية في الرسم والنقد والقصة والرواية والترجمة مَنحت شاعريته -وكما وصفها هو- "ذلك الرعب الشعري" حيث عجت مفردات قاموسه الشعري بنقائض كثيرة للخلاص.
إن فكرة التكامل في أشكاله الأدبية والفنية تلك بلغت أقصاها إذ استطاع أن ينقل ما يريد من خطابات بمستوى واحد وببعدين متعاكسين بين الحضور المادي والروحانية المجردة ولعل ذلك أحد أسباب شعوره بغياب الحرية وتلافي السقوط في عبودية الذات فجبرا يرى أن الأزمة قائمة ومن الصعب الفصل بين محركاتها المادية الجوهرية.
كانت أسئلته تجاه ذلك هي ما شكل نوعا من الارتباط بالبنى الروحية العميقة ويقينه باستخلاص الجوانب الإيجابية للتراث والالتصاق باللحظة المحركة للفعل الجديد فالإشكاليات قائمة على المستويات الإدارية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية ومازال قائما الرضوخ الى العقلية الإقطاعية وتقبلها، ولكن جبرا قد رأى أن هذه المسببات قد قدمت جانبا إيجابيا للفكر العربي إذ عمقت ذلك التناقض ما بين الرؤية للقديم والجديد بعد أن شملت هذه الأزمات العالم العربي برمته يقابل ذلك التطورات السريعة في النظريات الفكرية والأدبية والاجتماعية في الغرب وتوقع دخولها ميادين التطبيق في العالم العربي.
أدت هذه المفاهيم التي أتت بها المتغيرات المتلاحقة والتي هي الأخرى مست بنيوية اللغة إلى الاستجابة لذلك المتغير بقدر أو بأخر مع دعوته للحفاظ على الهوية الاجتماعية "المنجز الاجتماعي في كل ميادينه"، وفق تلك المفاهيم ومتطلبات التغيير ووعيه وفي الرواية قدم للقارئ العربي "البحث عن وليد مسعود – 1978" ومع عبد الرحمن منيف وفي العام 1982 قدما عملهما الروائي المشترك "عالم بلا خرائط".
في هذه الفترة ترجم جبرا إبراهيم جبرا العديد من المختارات العالمية ولعل أهم تراجمه "هاملت –ماكبث – الملك لير – عطيل وكذلك سونيتات شكسبير".
بعد أن درس الإنكليزية في إنكلترا وأجادها ترجمة وتخيلا وقام أيضا بترجمة أهم الاعمال الأدبية ل"أوسكار وايلد – فوكنر – بكت"، كما قدم أهم عملين نقديين "الحرية والطوفان – الأسطورة والرمز"، وفي الشعر أنجز جبرا في العام 1959 مجموعته الشعرية "تموز في المدينة"، أي بعد اثني عشر عاما من نشر بدر شاكر السياب لمجموعته الشعرية "أزهار ذابلة"، وقد كان جبرا في تلك الفترة جزءا من حراك قصيدة التفعيلة وقد قرأ وناقش مع زميله عبد الوهاب البياتي كتاب نازك الملائكة "قضايا الشعر العربي المعاصر"، واحتفيا به سواء في النقاشات العامة أو في اللقاءات التي كانت تجمعهم مع السياب، رغم أن جبرا كان يثير في هذه المناقشات رأيه الشخصي عن مفهوم قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر "الأوربية" وتوقعاته لمستقبل القصيدة العربية كونها لن تبقى كشريعة ثابتة.
إن ملاحظات جبرا عن قصيدة الشعر الحر،أنها نقلة من الشكل العمودي إلى شكل اخر جديد،لكنها لم تلغ القافية بشكل كلي وأن قصيدة النثر تمنح الشاعر حرية أوسع في التصرف باللغة كما أن مستوياتها التغريبية تكون باستخدامات غير تقليدية ، المهم في ذلك أن جبرا يرى أن حركة الحداثة سواء تلك التي قدمت على يد بدر ونازك أو تلك التي هبت فيما بعد رياحها من فرنسا لابد أن يكون لها موقف من الحضارة الإنسانية والوجود وتحديدا قضايا مساندة الإنسان ودعمه روحيا لتعزيز قنوات الانفلات الواعي فيه، أي تحرير الروح والنفس من التصورات البالية في ظل تعددية المفاهيم والتحديات،وقد يكون هناك تناقض ما في مفاهيم يوردها جبرا عن العبث والانحلال والرفض الثوري، لكنها ليست في عزلة عن ذلك التكيف التكاملي الذي أوجد به جبرا تلك المصالحة الهادفة مع حاجات النفس الكبيرة والكثيرة.