ادب وفن

"نهير الليل".. والكشف عن دلالة المعطى المكاني / خضر حسن خلف

حينما تتأصل موهبة الكتابة وتتمحور الذات الشاعرة بينَ موجودات الكون المحيطة،تبدأ بالتماهي مع العينين الراصدتين للكشف عن الرؤى المتناثرة في دوّامات الذات\ من الداخل المتضمنة بالمتسلط الممنوع المستبد ، والمشاع بحدود الأنظمة، وكذلك\ من الخارج كي تثري تشكيل صورة الحياة في القصيدة، تلجأ الذات الشاعرة إلى رسم تلكَ الصور المحتدمة وحضورها الذي لا ينفكّ يؤرق الذهن المركِّز على ذلكَ المنحى ليكشفهُ بالكلمات، متوفراً فيه على الإمتاع ِالشعري قدر المستطاع، غير مستقص ٍلحلول آنية. فتلك العينات الانسانية الضّاجة بالحياة والمؤطرة بمكابداتها المريرة ، لها تأريخها المتشكل بمسبباته والمتشح بصورة الزمان والمكان .
فالتعاملُ مع تلك الرؤى المهمة يجبُ أنْ يتناغم مع تأريخها المفعم ، عبر توصيلٍ غير مباشر لئلاّ تفقدُ من أَهميتها التي سبّبتها في الفعل بردة ِفعلٍ نافرةٍ لدى المتلقي، ولذلك سيكون السبيل إلى الإلمام بها عبر العمل الفني كالاِسطورة أو عبر حدثٍ مبني على قيم الإثارة و الارتداد المتلاحق في توجههِ الفني، وهو المحك الأصيل لأهمية المعطى الفكري.
ومن هذا الفهم يشيرُ الشاعر علي ابو عراق في مجموعته الشعرية "نهير الليل" إلى أَوجاعهِ المتنامية وبدلالاتها التي تتنازع الحضور مع الموجودات، وبالشكل الذي يراهُ ملائماً وبإحاطة تلقى استجاباتها بتقدير الأَهم من "الماضوي" المحتدم بتوليفة المساحة الضّاجة بالحياة ، والتي يرومُ اقتناصها كعبرةٍ إنسانية! "نهيرُ الليل".. دلالة السياق
إِنّ الدلالة التي يُشير إليها سياق توليفة العنوان انزياحاً عن المعنى العياني ، هي تأريخُ حياةٍ لحقبة محدّدةٍ في خارطة المدينة الجنوبية وأوجاعها المنسية.
ولم تأتِ هذهِ العنونة من غيبٍ ، فقد أثرتها ذهنية ُالهمّ الجمعي في ذلك التأقلم ونسجتها على منوال الدلالة ــ الزمكانية . فالدلالة التي يُشير إليها المضاف إِليه "الليل" في جملة العنوان الخبرية دلالةٌ زمانية تستأثر بدلالة ٍأخرى هي "المكان" المضاف "نهيرُ" الموجّه لسياقات حياتيةٍ متباينةٍ في مستوياتها. وانسيابهما هيّأَ لمعنى ًمحدّدٍ في تأريخية البعدين. وقد يثيرانِ في الذهنِ أَسئلة ًتستنطق المفهوم الفني الذي تستدعيه الدلالة والرؤية المتشحة بهما والتي تمدّهما بالفعل وردّة الفعل ، فيحفزانِ في المتلقي الحضور المستكشف لتاريخانية الفحوى القصدي في تجليه . فاستنفارُ الفضول لديهِ استثارةٌ للذاكرة المتطلعة إلى المعرفي . كما انّه أَثرٌ يستدرجُ ما خفيَ من تجبّر الزمن .
يقولُ الشاعرُ في حاشية القصيدة التي أَعارَ ثريّاها إلى المجموعة معرّفاً:"كانَ هذا النهر الصغيرُ المنطفئ في حقبةٍ ما قد روى تاريخ مدينة".
فالنهرُ المعني قد سوّيَ إِذاً وأُزيلَ أثرهُ من معمارية النسيج الطبيعي للمدينة. وما اشتغالهُ عليه واحتفاؤهُ بهِ اِلاّ لأنّهُ العصبُ الذي لمّ شملَ الحيوات الدنيا وعرّفَ بها طبقةً مسحوقة ً لا ملاذ لها غير الشواطئ الطينية وما يهبهُ الماءُ من رؤىً . ثمَّ انّ ماءَهُ قد تعمّدَ بهِ التعبُ المر الذي رسمَهُ الجور الآثمُ على ظهورِ المهاجرين الفقراء من الريف ..
"الهموم تقتفيكَ
وما لكَ من حيلة ٍ
أنْ تكونَ معتماً وضليلا ً".
ذلكَ النهرُ يظلُّ يتبادل الضررَ والحياة مع منْ حوله ، وقد جاءتهُ من أَسافل الطبقات المحكومة بالآلام والرعب شريدة ًمشدودةً إِليه ، لتهتكَ سرَّ ذلكَ العذاب بالتمرد على الجبروت إلى جانب الماء الذي لم تهتكْ خصوبةَ شواطئه الأنظمةُ المنحرفةُ بعدُ . و بذلك سيكون ُهذا "النهيرُ" ملاذاً لخصوصيةِ تاريخ المدينة وعذاباتها و مأوىً للحكايا والاساطير :ــ
"الفرحُ لا يليقُ بك
المآسي تربت على يديك..".
أَجدُ أَنّ هناك مهيمناً يأخذ ُ من فضاء ِالمجموعة الشعرية الشيء الكثير. يشيرُ به الشاعرُ إلى الدلالةِ الآنفة الذكر فالماءُ يأخذ ُمن تركيزه الكثير كونَهُ عصب الحياة . فالحضارةُ ما ابتنتْ الاّ على استفاضتهِ وما عرك الانسانُ كينونتَهُ إلى مستوياتٍ أعلى ، وتفتحَ ذهنهُ على مقترحاتِ ديمومته إلاّ على شموخه .
فبالإضافة إلى القصيدة الرئيسةِ التي وردَ تحليلها أعلاه ، بدأَ مجموعتَهُ بقصيدة "أَنهار الرمل" التي يعالج فيها حدَثاً عصرياً ، لهُ اشكالاتهُ المترتبةُ على حياة "السواد". فالشحةُ التي تعانيها الأنهرُ الآنَ للأسباب الطبيعية العديدة والاصطناعية يخاطبُ الشاعرُ مثولها التأريخي بين يدي هذهِ الارض :
"لم يتبقَ لكما الكثيرُ
في مدنِ الترابِ هذه".
ويذكرُ "يائساً" أَنْ لا مجالَ لعودةِ الخصب في أَرضٍ غزاها التصحّرُ واستبدَّ برملها
"البدو" .. "آدم الذي ضلّ الطريق":ــ
"لا تعوّلا ...
فالمجاذيفُ
تحثو الترابَ
والزوارقُ
فزّاعاتٌ لأشباح الضفاف".
وحتى "الآلهةُ القديمة" التي كانَ لها دورٌ عظيمٌ في عملية الخصب على شواطئ أنهر ارض السواد تنكّرت الآن للتأريخ ولم تفعل شيئاً إِزاءَ ما يحصل وبقيت متفرجةً ، ربمّا للتألق الحاصل في ذهنية الانسان المتحضر واشتغاله الذي لا ينفك في تقدم العلم والتكنولوجيا والمعايير السياسية الجديدة :ــ
"إِبسو إِلهُ المياه العذبة
يجوبُ المزابل
بحثاً عن زهور ٍذابلةٍ".
إَنّ المتفحصَ للنصّ في أَعلاه يعرفُ أنّ ما تخفّى وراءَهُ الشاعرُ في الالتقاطات الحاصلة في النصِ اِنمّا هو كنايةٌ عمّا يؤسسُ لهُ الآخرُ في عرقلة المشروع الإنساني .
وتأتي قصائدُ "نهرٌ أَحمق ــ خذلان- صلاة الماء - رحلة نهر".. مكملة ً لذلك المنحى الذي يتضمنُ أَوجاعَهُ وحضورهُ، تحتَ طائلة المهيمن ، في صورٍ عديدةٍ محتدمةٍ ، تتنازعُ مع التسلط المقيت لحلم البقاء والتألق .
إنّ الشاعرَ في معظم قصائدهِ المتبقية ظل أَسيرَ ملاحقة الماضي ، ملتحفاً بهِ ومحقّقاً في حيثياّتهِ ، عبر تراتبية نواميسه وحسب تطلعات المكوّن المتسلط . فما الهجرات التي انطلقت منذ بدءِ التاريخ اِلاّ للخلاص من هول العذاب و الاستعباد . و الشاعر يكشفُ عن كلِّ ذلك متحسّساً بهِ :ــ
"هرعْنا إِليكَ سلاحفَ
حمّصها القيظ ُ
لا طلباً لظلٍّ وماء
بل توارياً عن كلابٍ مسعورةٍ".
وفي المتبقي من قصائدهِ ، يستمرّ الشاعرُ منقباً و مؤشراً للأفعالِ المهولةِ التي حدثت بحق الانسان الذي يبحث عن حريتهِ ! و الذي كانَ يأملُ من عصرهِ أنْ يمدّهُ بها ويمنحه السمو الذي يليقُ بهِ . في قصيدة "قطار الموت"، يتماهى مع المتذمرينَ من هول جرائم العصر التي يندى لها الجبين:ــ
"يسوقوننا كقطعانِ غنمٍ
إلى حروبٍ لا تنتهي
فيهزج مفرقعاً اِصبعيه
دمكم فحمي الحجري".
ويُكملُ مندهشاً لهذهِ الآلة العملاقة التي تشكلُ علامةً فارقةً في اختراعات الانسان المتحضّر ولكنّها تُسخّرُ لغير ما صُنعت لأجلهِ :ــ
"قطارُ الموت
لا يكترث لأماني المحطّات
ولا لنداءِ باعتها الصغار
ونسائها الموغلات في السواد
و لم يشعرْ بالإعياء
أو تحتجبُ همتهُ عن الأنظار".
ويتخلى الشاعرُ في قصيدة "أَسفار الدم" عن اشتغالات الهمّ الجمعي على مساحات الماء والخصب ويلجأُ إلى الذات المتورمة بالأسئلة والتي ما انفكّت تقلقهُ ولم يستطعْ انْ يتوصلَ بها إلى حلول ، فيسفرُ عن مكنوناته بجرأةٍ مخترقاً التقنين الحاصل والمهيمن الذي لا يخرق :ــ
"يارب
أُكلمّكَ كما كلمّ كَلكَامش أوتو
فاستمع كلمتي
تصلْ إِليكَ مباشرةً".
وها هو دونَ لفّ ًولا دوران ، ودونما وساطةٍ يطرحُ سؤالهُ مباشرة ًلعلّهُ يتلقى ما يريحهُ "بشجاعة العباد المخلصين":
"لماذا أنتَ مولعٌ
بابتكار موتنا ؟
ترصدنا كصياد ماهر
من أَجمةٍ إلى أخرى
تلاحقنا
ولا تكتمل مسرتّكَ
حتى يفورِ تنورك".
يتحدث عن الموت مثلما تحدّثَ عنهُ الكثير من الشعراء وراقبوا التجلي المستعصي على التفسير. فيتماهى مع المسبّب ويحمّلُ الإله "اوتو" الذي يعبث بالمقدرات ولم يوقف هذهِ الكوارث التي تعصف بالبشر في كلّ حين :ــ
"أكلّ هذا يا أوتو
لتحرّرنا
من خطايا لم نرتكبْها".
لقد توفرت المجموعة الشعرية "نهير الليل" على تجربةٍ شعرية نبعتْ من القدرةِ على الكشف عن التفاعل الذاتي مع الموضوعي في الكتابة بفطرة العمق النفسي و الاجتماعي ، مما جعلَ لغتَهُ الحيّةَ تستجيبُ للوسائل الفنية البسيطة والتي تشي بما يحملُ من قيمٍ فكريةٍ وجماليةٍ للشعر، وتبتعدُ بقدرٍ معلومٍ عن الغموض كي يبلغَ بمنجزه النصّي المتلقي دونَ تكليفٍ . ولكنَّ بعضَ قصائدهِ جاءتْ على محملٍ خطابي وفي هكذا تقنيّةٍ تنثالُ اللغةُ الإنشائية البسيطة مع الموضوع المتناول:
"يا شمساً مصنوعاً من نور
يا شمساً لا تغيب
أَنتَ المجيرُ لكلِّ صخبِ التاريخ
و فتنته
فكيفَ تُجارُ"؟
ويبقى فعلُ الكتابة يمثلُ معادلا ً موضوعيا ً لما تظهرهُ النفس من تشوّهات الحياةِ وايجابياتها بشكل فني جمالي يأسرُ المتلقي.
"نهير الليل" مجموعة شعرية للشاعر علي ابو عراق صادرة عن دار تموز للنشر.