ادب وفن

"أفراس" زيدُ الشهيد بين الموتِ والحب / هاتــف بشبــوش

السرد الروائي الجاذب، يكون المرتكز الاساسي، والقالب المتين لصب الأفكار النقدية ، وتوجيهها بما يرضي الأدب أولاً بكونه فناً عالميا ، ويرضي ذوق القارئ ثانيا ، بكونه الحَكم في هذه اللعبة الحيادية بين الروائي والناقد . كما أنّ الرواية هي تجربة كبرى , يخوضها صانعها ويرتجى منها أن تكون قد أدتْ ما أراد لها ان تكون ، مثلُ دراسةٍ تتعلّقُ في إختراع شيء ، غايتها أن تُفيد الأنام , في هذه الأرض الفسيحة .
أفضل الروايات العالمية هي التي تتخذ من الحب سيرة ذاتية ثم يتم توظيفه كعنصر فعال وداينمو محرك للرواية، ومن خلاله يستطيع الروائي إبراز مايريده من خلال الحوارية بين الحبيبين، أو من خلال مراحل الحب التي يشهدها على مر الأزمنة وما يمر به المجتمع على فتراته المتعاقبة ، من الوضع السياسي والاجتماعي، ومن خلاله يستطيع أن يخبرنا عن طبيعة تلك المرحلة للمجتمع التي مرّ بها هذا الحب. على سبيل المثال إذا قرأنا آنا كارنينا للروائي ديستويفسكي ، نستطيع أن نجد الاقطاعية الروسية والقياصرة ، واذا قرأنا رواية أحدب نوتردام ولواعجه مع الازميرالدا لفيكتور هيجو ، نجد المَلَكية ، وحكم الكنيسة , وكيف كان يتعامل الأبرشية والكهنة . وإذا قرأنا مدام بوفاري ، نجد طبقة النبلاء والرقصة البافارية التي اشتهرت من خلال هذه الرواية . كما وأنّ الحب بشكل عام هو الغاية التي يُراد منها الوصول الى الحرية ، هو الطيران والتحليق دون أجنحة بعيدا عن كل ماهو عنيف ومدمر كما يقول الشاعر الكردي الكبير شيركو بيكس الذي مات قبل أيام (عندما وضعتُ أذني على قلب حبيبتي حدثتني عن الحرية ).
اذن الروائي يتخذ من الحب وسيلة للوصول الى الغايات المنشودة ، والمراد إيصالها الى القارئ بالصورة التي يريدها . .
رواية (أفراس الأعوام) لزيد الشهيد موضوعة قراءتنا هذه، الصادرة عن دار تموز للطباعة والنشر/دمشق 2011 , أخبرتنا كيف يكون الموت والحب جسرين الى الحرية المنشودة .الرواية ليست قرائية فقط وإنما رواية تحمل صفات السناريست السينمائي بحق , ولا بد لها أن تجد حيزا متميزا في السينما العراقية قريبا , إنها رواية تقترب من الدراما التي قرأناها في الكثير من الروايات العالمية . رواية تناولت بشكل بانورامي الحقبة الزمنية للعراق من العشرينات وحتى الانقلاب الدموي البعثي في عام 1963 . وأعتقد أن الرواية من الممكن أن يكون لها جزء ثان تبدأ من الفترة الدموية 1963وحتى الآن وما فعله البعثيون في العراق من دمار وعسكرة للثقافة وللانسان والبنى التحتية وكل مرافق الدولة. إذ أننا حتى الآن مازلنا نعاني أذناب وثقافة هذا النظام الدموي الذي بات يقتلنا بالمفخخات , كنا نقتل في السجون والاقبية واليوم فوق الأرض وفي رابعة النهار .
انّ الرواية السينمائية بكونها إبداعاً فنيا وصناعة أيضاً , تتطلب معرفة في الثقافة والصورة وموهبة خالصة, نقية تتجه صوب هذا العمل الشاق بمستواه الفني وجمالية السرد الشائق , والقابل للهضم , من قبل القارئ والناقد .
رواية (أفراس الأعوام) في صفحاتها الأولى إستشهاد بمقولة لكزانتزاكيس من روايته الأخوة الاعداء, وكذلك مقولة لأدونيس , إلاّ إنني وجدت في الصفحة الاولى إستشهادا من القرآن الكريم من آية الاسراء , ولم أجد لها صلة بالرواية وإنما للتزويق فقط أو لغاية في نفس الروائي .
في هذه الرواية نجد الروائي زيد ونتاجه الثقافي قد ساهما كثيرا في صناعة هذا العمل الابداعي وبلورته البعيدة عن المنهجية ، هذا العمل الروائي إمتلك وجودا فاعلا ومؤثرا في قريحة الناقد الفنية والموضوعية , ولذلك أعتقد إنها ستنال إعجاب أكثر من ناقد , وقد كتب عنها حتى الان الناقد الكبير ( جاسم العايف) , إضافة الى دراسة من قبل طالبة في جامعة ديالى .
الرواية ألمّت بالكثير عن تلك الحقبة الزمنية , وتفاصيلها البسيطة والمعقدة , والتي سبرت أغوار المجتمع وشخوصه أنذاك من الساسة والشعراء والفنانين و الناس البسطاء والاشقياء , وشيوخ العشائر ورجالات الدين .
الرواية إتسمت بقوة معياريها اللغوي والبلاغي , ما منحها القدرة على الابتعاد عن الغوص في الخيالات والتصورات التي ليس لها مبرر , وأنا اعتقد أنّ زيد الشهيد قد تخلص من الكثير من القصاصات والمسودات التي لا تصلح أن تشغل حيزا مناسبا بين أسطر روايته هذه .
أشهر الروايات العالمية تلك التي إعتمدت على البطولة الفردية , وأغلبها تناولها الفن السابع , ومنها على سبيل المثال الرواية العالمية البؤساء لفكتور هيجو وبطلها ( جان فالجان) وقد مثلت في أكثر من فلم وآخرها (2012) وعلى شكل فلم غنائي رائع , إشترك في تمثيله , الشهير (روسل كرو) الذي مثل دور الشرطي الذي يطارد بطل الرواية جان فالجان , وقد أدى دور البطولة الممثل القدير (هيو جاكمان) , وكذلك مثلت من قبل الممثل الايرلندي( ليام نيسون) الذي كان بارعا للغاية في أداء دوره . أيضا رائعة الكسندردوماس وبطلها الكونت دي مونت كريستو, التي حملت نفس الاسم في الفيلم. كذلك رواية سبارتكوس للمثل كيرك دوغلاس , غادة الكاميليا , آلام فرتر , موت في ريعان الشباب , الرواية الروسية الرائعة ( تلك الوردة الحمراء) , شيطنات الطفلةُ الخبيثة للروائي البيروي الكبير ( ماريو فارغاس يوسا) , والكثير من الافلام الدرامية والبوليسية , حتى أفلام رعاة البقر وما أجملها في هذا الجانب . كلها إتسمت بالبطولة الفردية الرائعة , وكلها تجسدت صِورياً وصوتيا , وكنا أيام زمان حين نجلس في صالات السينما نقف الى جانب البطل , لأنه غالبا ما يميل الى فعل الخير ومهمة القضاء على الشر .
رواية أفراس الاعوام هي الاخرى شملت الدور البطولي لشخصية من أهالي السماوة (جعفر حسن درجال) وهذه الشخصية جعلت الرواية مفعمة بالاثارة والتشويق , وما خلّفته هذه الشخصية في نفسية القارئ من تعاطف وألم, ومعايشة لواعج وإرهاصات قد عاشها الكثير من الفتية العراقيين الذين أرمضهم الزمان الغابر عشقا وكبتا ولوعة , ( جعفر حسن درجال ) الفنان الرسام , والمحب العاشق ,الذي أحب بكل جوارحه فتاة من الطائفة الثانية, تحمل إسم وهيبة , وهو إسم يعطي إنطباعا رومانسيا للحب , اذ نجد في الدراما المصرية تلك الأغنية الجميلة ( تحت الشجرة ياوهيبة ياما قشرنه البرتقال) , في حين انّ إسم حبيبها جعفر , وهو إسم شيعي للدلالة على الفارق بينهم طائفيا .
تتناول الرواية قصاً حقيقياً لما مرّت به مدينة السماوة من أحداث على الساحة السياسية والاجتماعية , ثم أضاف عليها الكاتب نوعاً من الفنتازيا التي أعطت الرواية الكثير من التشويق .
عرّجت الرواية على الصراع أنذاك عند دخول القوات البريطانية وقضائهاعلى الرجل المريض (الحكم العثماني) , وكيف سخّرت بريطانيا بعض شيوخ العشائر وتجنيدهم لصالحها , وبعض الاشقياء المستفيدين من الفوضى الحاصلة , نتيجة التغيير في الحالة الاحتلالية للبلد , ومنهم حسون اليابس وجبير تفال.
في الرواية تأخذنا النشوة الحزينة مع رحلة البطل جعفر حسن من 1917 ورؤيته للجندرمة في قائممقامية السماوة مرورا بسجنه في العام 1935 مع الشاعر الكبير محمد صالح بحر العلوم والشيخ خوام , وهو في ريعان شبابه , حتى مماته وهو قد تجاوز الستين من عمره وما يتخلل هذه الفترة العمرية من تغيرات سياسية وإجتماعية قد مرّت على العراق .
من خلال السرد الروائي نتعرّف على الاحياء الشهيرة في السماوة وهما الحي الشرقي والحي الغربي,الصوب الكبير والصوب الصغير ونهر الفرات الاسطوري الذي يفصل بينهما . ثم نتعرف على شيوخ هذه الاحياء , الشيخ فارض العلوان , الفارض الشخص الذي يفرض كلامه على الآخرين أوالذي يُطاع من قبلهم , أما الشيخ الثاني فهو الدخيل وكيف كان النزاع بينهما على المصالح , خصوصا في أيام الاحتلال البريطاني وأواخر أيام الرجل المريض( الدولة العثمانية) . فتارة نزاع متوتر وتارة يكون الصلح هو الرابط بين الاثنين ( على غرار روايات نجيب محفوظ) فتوة بولاق , زقاق المدق . يشير الروائي أيضا في تعبيره الى كلمة الدخيل , بأعتبارها الاحتلال الاول وهو العثماني ثم الدخيل الثاني وهو الاحتلال الانكليزي , وكلاهما دخيل على العراق , وكلاهما الفارض لقوانينه وسياساته المجحفة بحق العراق الذي ظل يئن تحت وطأة ظلمهم وجورهم .
تجسد الرواية ضياع الهوية الوطنية للفرد العراقي , حيث أنّ الجميع يميل الى الطائفة اكثر من ميله الى الوطن , رغم التعايش بين كافة الطوائف في الفسيفساء العراقي , لكن هذا التعايش هو من النوع الهش , سرعان ماينقلب الى الوحشية والبعض يأكل البعض الآخر عند تغيير الخارطة السياسية التي لم تستقر أبدا منذ قرون . ضياع الهوية الوطنية والولاء للطائفة هذا ناجم من الحاكم الأجنبي الذي حكم العراق على مر الأزمنة , الحكم العثماني1600ـ1914 فكان الولاء فيه للأستانة عاصمة الخلافة العثمانية, ثم الحُكم البريطاني والولاءات فيه للساسة الأنكليز . فكان الفرد العراقي دائما متملقا خائفا , يستمد قوته من الفرمان السلطاني حيث هناك مركز القرار والسلطة والجاه والنفوذ , ثم جاء البريطانيون , فتبدل الولاء من الحاكم العثماني الى الحاكم البريطاني , ولذلك نرى الولاء كان للدولة العثمانية ومن ثم للدولة البريطانية وليس الولاء لشيء إسمه العراق . وحتى الشعراء والأدباء كانوا على تبدّل مستمر في عطاءاتهم وبما ينسجم مع الولاءات , أنفسهم كانوا يمدحون العثمانيين , إنقلبوا الى مديح البريطانيين , ومنهم جميل صدقي الزهاوي , محمد مهدي البصير , وعبد المحسن الأزري , وغيرهم . وهذا ناجم من الخوف الذي عاشه الفرد العراقي في ظل أنظمة أجنبية جائرة حمكته بالحديد والنار على مدار ستمائة عام إبتداء من الفرس حتى الانكليز , فيضطر الفرد العراقي لأن يكون ماكرا متقلبا , منافقا , لكي يعيش ويستمر في الحياة رغم قسوتها عليه.ولو انّ الفرد العراقي عاش في ظل الحرية لكان إمتلك نوعاً من الاخلاق التي يتميز بها الانسان الحر في بقية بلدان العالم المتحضر.
رواية فيها الكثير من الموروث والفلكلور الشعبي وهي من المهمات الثقافية التي وظفها الكاتب في البناء الفني للرواية . مجتمعنا العراقي بشكل عام والسماوة بشكل خاص فيها الكثير من الأزمات والهزائم , الهزائم السياسية , أم هزائم الفرد نفسه وخساراته التي لا تعد ولا تحصى , على مر سنوات عذاباته , وتمشدقه بالحياة البائسة المستحيلة في هذه الشعوب المريضة إجتماعيا وأخلاقيا وسياسيا واقتصاديا .
رواية زاوجت بين الموروث والابداع حتى إستطاعت انْ ترسم هذا الاطار من المفاهيم العميقة لماضينا وحاضرنا .إستطاعت إستيعاب الواقع المنخور في تنوعه وحدّته وأشكال المتناقضات داخل المجتمع السماوي البسيط , السماوة التي إصطرعت عليها جيوش العثمانيين والإنكليز وثوار العشرين , كل هذه الاحداث أدت الى إخصاب الفكرة الجميلة وتوظيفها في هذا الأبداع الروائي , وبشكل تقني مذهل وملفت للقراءة , علاوة على قوة اللغة , والكلمات التي طاوعها الروائي زيد الشهيد الى مخيلته حتى ظهرت بهذه الصورة الجمالية البليغة. ركزت أيضا على الذات العراقية وكيفية مراوغتها بين الأصالة والتردي تبعا لأهوائها وتمايل ريحها ومصالحها.
تبدأ الرواية بنهاية البطل التراجيدية ونهاية الحقبة الزمنية التي تناولتها الرواية , حيث يظهر جعفر حسن , بطل الرواية في عمره الستيني الذي يموت فيه , وهو يتذكر الماضي, وفي بداية حقبة زمنية مظلمة اخرى للعراق في بداية عام 1963. وهذه أضافت للرواية تشويقاً اكثر كما حصل مع الكثير من الروايات التي عرضتها شاشة الفن السابع .