ادب وفن

بين أن يكون الروائي إنساناً أو مصوراً أعمى / د. رزان إبراهيم

قد يأتي الروائي ليطرح في نصوصه السردية ما يمكن أن يسمى (رواية المعارضة)، فيتناول السلطة بالنقد، ويندد بأنظمة عسكرية دكتاتورية، مقنعاً جمهوره بقدرة فذة على قول الحقيقة. ومن بعدها يأتي ليدلي بتصريحات سياسية بشأن بلاده تتناقض وما خطته يداه على مدار سنوات.
كان ذاك شأن ماريو فاغاس إيوسا، الذي ندد بالنظام العسكري في البيرو، وكان ريادياً فيما أطلق عليه رواية المعارضة في أدب أمريكا اللاتينية. وهو من أحبه قراء رأوا فيه قدرة على أن ينسج أحداثاً تشبههم إلى حد كبير، وكان في الوقت نفسه ماهراً في توجيه الاتهام في الاتجاه الذي يرونه صحيحاً. ليتكشف للقارئ بعد ذلك أثناء حملة انتخابية من أجل رئاسة البيرو، أن ما كتبه في نصوصه الإبداعية شيء، وأن ما يدلي به للصحافة شيء آخر. ما تقدم يضعنا قبالة تساؤل بشأن التزامات الكاتب بما هو فنان وإنسان في الوقت نفسه. فهل من شأن الرواية وحسب أن تتمرد وتخرق الحياة؟ ومن بعدها تأتي ظروف أخرى لتحكم أقوال مبدعها وتصرفاته؟؟ وكأنه كما يصوره ألبرتو مانغويل " مصور أعمى عاجز عن رؤية الواقع البشري الذي كانت عدسته قد التقطته بقوة كبيرة". اثنان في واحد.. هل يعقل أن يوجد اثنان في شخص الروائي؟ كل منهما يخرج في الوقت المناسب؟ هكذا يصف ألبرتو مانغويل (إيوسا) الذي رأى فيه روائياً كبيراً شديد التحسس بالآخر، ورأى فيه في الوقت نفسه شخصاً آخر عاجزاً عن التحاور، بل وأعمى من رؤية الآخر" هو نسخة كاريكاتورية عن كل ما لا يرغب إيوسا أن يكون عليه"؛ يرفض قبول الحجج النسائية ودعاوى الفقراء المعوزين بحجة أنها تصويبات سياسية. يضحي بالثقافات الهندية، ويؤازر عفواً عاماً عن مجرمين ثبت تورطهم باختفاء مجموعة من المواطنين أثناء الحكم العسكري الدكتاتوري في الأرجنتين. بل ويذهب به الأمر إلى تعريف زملائه ونفسه ( الروائيين) بأنهم مخربون عن وعي أو دون وعي للمجتمع. ثوريون غير تائبين في الدنيا.
والسؤال، هل يكون من مهمتنا نحن القراء أن نبحث عن وجوه محتملة للروائي أو الأديب الذي نقرأ اعماله؟ كثير من المعنيين بالنقد الثقافي يسعون لاكتشاف مدى انسجام الروائي أو الأديب مع تصريحاته وأفعاله، خصوصاً أولئك الذين حملوا مشاريع فكرية بارزة واكبت نصوصاً سردية خاطبتنا على مدار سنوات طويلة، لتغرينا بعد ذلك بتوثيق انسجام محتمل بين الأدبي والفكري.
إن كان الواحد منا يتوقع أو يأمل تطابقاً بين أطروحات المتخيل الذي يحكيه الروائي, وبين ما يمارسه على أرض الواقع، فإن كشفاً مغايراً يُتبين فيه أن الحكاية لا تعبر عن آراء الكاتب الحقيقية، من شأنه أن يصيب القارئ بحالة من الخذلان والتشتت، خصوصاً حين يجد نفسه حائراً بين ثوريّ أثار حماسته في روايته ليجده بعد ذلك وقد قدّم عفواً لجلادي التعذيب في بلاده، أو يجده وقد ترافع دفاعاً عن إلغاء الثقافة الخاصة بشعب من الشعوب، في وقت تتبنى فيه نصوصه السردية كل ما هو إنساني شمولي عام. عموماً، الكاتب بحاجة إلى جمهور يذكره بضرورة أن يكون صلباً ومسؤولاً، يحضه ويطالبه بأن يقف في صف المحرومين البائسين. وأنتهي إلى القول إن حقيقة الانتماء لدى الأديب هي حالة من الانسجام بين الذات والأطروحات الفكرية والسياسية، بين السلوك الحياتي والإبداع في المجالات المختلفة؛ فثمة ثوابت بعيدة عن فكرة الجمود, يرفض الأديب الحق المساومة عليها مهما كان الثمن الذي يُدفع له. وهو ما يفتح الباب واسعاً في ذهني لمحاسبة نخبة ثقافية تقول ما لاتفعل في كثير من الأحيان.