ادب وفن

شخصيات يوسف العاني الحالمة في الذاكرة العراقية / داود سلمان الشويلي

في عالم الأدب والفن هناك شخصيات يتركها هذا العالم في ذاكرة الناس الذين يطلعون عليها من خلال القراءة، او مشاهدة المسرحيات او الافلام، إذ تأخذ لها حيزا مكينا في تلك الذاكرة، وتتحصن فيها على طول السنين، مثل شخصية شهرزاد في الليالي، وشخصية "سي السيد" في ثلاثية نجيب محفوظ، الرواية او الافلام الثلاثة المقدمة على الشاشة الكبيرة او الصغيرة، وكذلك اغلب شخصيات شكسبير المسرحية.
اما في عالم المسرح العراقي، والذي مثل فيه الفنان القدير يوسف العاني، فالذاكرة العراقية تحتفظ بشخصيات كثيرة قد احتفظت بها في مكان مكين بذاكرة العراقي من ابناء الشعب، مثل شخصية حماد العربنجي من مسرحية "النخلة والجيران" المعدة من رواية تحمل الاسم نفسه للروائي العراقي الواقعي غائب طعمة فرمان .
والشخصية الثانية التي علقت بشدة في ذاكرة العراقيين واحبوها هي شخصية "دعبول البلام" في مسرحية "الشريعة" 1988، التي كتبها العاني بنفسه.
وفي الشاشة الصغيرة، التلفزيون، قدم تمثيلية "عبود يغني" 1972، عن قصة للكاتب العربي نجيب محفوظ، وسيناريو وحوار عبد الوهاب الدايني، وفيها شخصية "عبود العربنجي" الذي جسده الفنان القدير يوسف العاني.
وفي السينما قدم شخصية الشاعر "شريف" في فيلم "المنعطف" 1978، المأخوذ عن رواية الكاتب الروائي العراقي غائب طعمة فرمان "خمسة اصوات".
ترك الفنان القدير يوسف العاني بصمة لا تمحى في ذاكرة العراقيين من خلال الشخوص التي قدمها على المسرح او التلفزيون او السينما، وهي شخصيات تحمل صفات ومميزات متفردة في الواقع المعاش، فيما تعيش عالمها الخاص لو خلت بنفسها، انها شخصيات شعبية خرجت من قاع المجتمع لتصدح بصوتها عاليا وهي تقدم نقدا لما في المجتمع الذي تعيش في كنفه من مساوئ، ان كانت تلك المساوئ على المستوى الذاتي او على المستوى الموضوعي العام.
فحماد العربنجي، وعبود العربنجي، ودعبول البلام، والشاعر شريف، شخصيات تعيش على هامش المجتمع الذي استلت منه كممثلة له امام الرأي العام، وهؤلاء غير متزوجين عدا "حماد العربنجي" في "النخلة والجيران"، معوزون ماديا، سكيرون الى الحد الذي ينكشف امام اعينهم وعلى لسانهم ما خبأته ذاكرتهم في لاوعيها من مساوئ الواقع فيتكلمون في سكرهم اكثر منهم في صحوتهم من ذلك السكر، يائسين من الحياة في تقديم نافع لهم، ان مستقبلهم مظلم مجهول كما يقول "شريف" في فيلم "المنعطف".
فحماد العربنجي، وكذلك عبود العربنجي، وهما شخصيتان مستلتان من اعمال ادبية معروفة، رواية عراقية وقصة قصيرة مصرية، بنيتا مسرحيا وتلفزيونيا بناءً مختلفا، الواحدة عن الاخرى، الا انهما بقيتا كشخصيات مستلة من قاع المجتمع، انهما تعيشان على الهامش.
حمادي العربنجي يعيش وزوجته " رديفة " وهما يحلمان بالمخلص الذي سيأتي اليهما لينتشلهما من هذا القاع الذي وقعا فيه رغما عنهما.
تقول " رديفة " وهي تجلس امام جسد زوجها المريض " حماد العربنجي":"باجر، لو عكب باجر منشوف الا الباب تندك واصيح منو بالباب؟ اسمع فد واحد يكول اني فارس الفرسان، واشوف جدامي فارس وجهه نوراني راكب على فرس ... اكله شتريد عيني؟ يكلي منو عدكم محتاج ؟ اكله احنه، احنه، عيني احنه، الشايب صارله شهر نايم بالفراش... يكلي كومي، اكله وين عيني ؟ يكلي كومي لمو غراضكم لبيت جديد، الشايب يكدر يمشي..."الخ، انهما يحلمان بهذا الفارس دون جدوى.
اما "عبود العربنجي" الذي يبقى مختبئا في المرافق الصحية لاحد المشارب كي يسرقه بعد ان يخرج الجميع، فانه يفاجأ بعدم وجود شيئ ما في " الدخل"، فيأخذ بالشرب حتى يسكر، كان حلمه ان يسرق ليعيش، اقصد ليستمر بالشرب لينسى حاله، فيتبدد حلمه خاصة ان في اليوم الثاني وجود "كرصة" عند الناس، ويحتاجون الى العربة التي يعمل عليها لتوصيلهم الى المتنزهات والاماكن العامة، فيما هو سيظل مسجونا في هذا المشرب الى الليل القادم، فيضيع منه ما يحصل عليه من مال من عرق جبينه، وفي النهاية يزج به في السجن.
وهكذا يتبدد حلمه في الحصول على المال لتستمر حياته المليئة بالخمرة .
وفي مسرحية "الشريعة" التي كتبها العاني نفسه بقلمه، يرسم فيها شخصية شعبية يستلها من قاع المدينة حيث الناس المهمشين، انه " دعبول البلام " الشخصية التي تشبه شخوص العاني الباقين، فهو من هامش المجتمع، غير متزوج، سكير، يتحدث كثيرا عندما يسكر، وعنده حلم وعليه ان يحققه في الواقع، كما عند الاخرين من شخوص العاني، هذا الحلم هو ان يزج به مع الوطنيين في السجن ليحقق امنيته في ان يكون معروفا بين الناس على انه وطني كما في الحياة، فهو وطني الى النخاع الا ان وطنيته تصطدم ببساطته وبساطة عالم البلامة الذي يعيش فيه، و تصطدم بجدار الحكومة "الشرطة" التي تسجنه مع المجرمين واصحاب السوابق نكاية به.
يتبدد ذلك الحلم في ان يسجن مع السجناء الوطنيين لا مع السجناء المجرمين الا ان الشرطة تعانده فتزج به مع المجرمين واصحاب السوابق.
ويعود العاني الى شخصية اخرى مستلة من عمل ادبي يجسد فيها دور الشاعر شريف في فيلم " المنعطف " وهو شاعر اعزب، لا هم له سوى الشرب، يعمل مصححا في جريدة ويكتب الشعر، انها شخصية مستلة من قاع المجتمع، يعيش على هامشه، لا هدف له سوى اشباع حاجاته الجنسية من مومس يتزوجها في النهاية، واشباع حاجته الروحية في ان يشرب في كل ليلة مع اصدقائه فيثمل ويظل يندب حظه.
يقول وهو في حالة سكر:" آه ... كلشي يتحرك بس شريف باقي... لا بحر، لا كاع، لا مره... كلشي ما راح تشوف بحياتك.. لك خراب بخراب".
واذا كان "دعبول البلام" يحلم في ان يسجن مع الوطنيين فان "شريف" وعند عودته من جلسة شراب على الشاطئ مع جماعته، يجد شعارا مخطوطا على الجدار غير مكتمل فيكمله باضافة حروف "عمار" للكلمة غير المكتملة للاستعمار، وفي هذا تبرز الى سطح مطامحه ما في نفسه مخبوءا من وطنية لا يستطيع اظهارها وهو يبحث عن لقمة العيش وكأس شراب .
ان شخوص العاني التي جسدها على المسرح او على الشاشة الصغيرة او الكبيرة هي شخصيات مستلة من قاع المجتمع، تحمل مساوئ ومحاسن الفرد في ذلك القاع، تحلم في ان تصنع شيئا ذا بال لها على المستوى الشخصي والعام، الا ان حلمها هذا تبدده قوى غاشمة اكبر واقوى منها، حيث هي تنوء بثمالة السكر، فلا تقدر على مجابهتها وجها لوجه .
الراحة الابدية للفنان القدير يوسف العاني الذي اضحك وابكى الناس في الوقت نفسه على همومهم فزادهم اصرارا على الثورة وتغير واقعهم.