ادب وفن

اللوغوس والتشكيل العراقي

احمد بجاي
الليل في السويد طويل وموحش ولا تكاد ترى النجوم كما في سماء العراق, كثيرة وكبيرة وقريبة منك, حتى تأخذك الافكار مسرعة لتتخيل نجوم العراق تحيطك في مكان آخر لم تتعود على عمل النسق فيه ليسرق منك الزمن الحاضر والارض التي تعيش عليها, وهنا اتذكر الاغنية العراقية القديمة "جسمي عايش اببغداد وروحي ساكنة البصرة"، بكل ما جاءت به من معاناة وحنين للمكان الذي بدأ الفرد بتشكيل شخصيته فيه وما يفرضه من تأثيرات وردود فعل حسية على ذات الفرد التي هي في الحقيقة اسيرة زمان ومكان محددين متحدة مع المكان الجديد شكليا.
اصبح الحنين الى الماضي ثقافة عراقية خالصة بحيث ان الزمن الحاضر والواقع العراقي المؤلم اليومي منفصل تماما عن الماضي الذي له دلالاته المميزة التي هي في الغالب دلالات بريئة وخيرة ومرجعية تغذيه على الدوام, وتزرع فيه املا ليس بالامكان تحقيقه وتنقله الى عالم نقي تتحد فيه الاضداد وتتصالح, وهنا نجد شيوع مصطلحات الغربة والاغتراب واستلاب كامل لوجود الانسان الآن وعندها يتلازم الدال والمدلول لتنتج لنا دلالة واضحة المعنى من حيث هي معرفة لدى الفنان والمتلقي معا وعن طريق فهم العلامة, الختم البريدي مثلا, وبالتكرار والتداول تكون مرجع احالة تقليدي دون التجرؤ على محاولة كسره او تغييره او انتاج منجز فني متفرد مبدع آخر كنصب الحرية للمبدع جواد سليم او نصب الفرس ذي الستة امتار ارتفاعا للمبدع احمد البحراني.. الابداع ليس تمجيد الفنانين الرواد واعتبارهم المثال المتعالي "لوغوس" الانا التي ترى ان العالم والكون بحاجة لها, الانا التي ترفض العقلانية لا يجوز ان ينظر لها بعين العقلانية والمنطق, متناسين ان مرجعية الفن التشكيلي العراقي هي اوربية ونحن نعيش عصرا اختلت فيه القيم والمفاهيم وتغير عمل نظام الانساق في الالفية الثالثة ولسنا الآن لم نزل في خمسينيات او ستينيات الالفية الثانية.
المعرض المشترك "رحلتان"
يقام على صالة متحف فالبغدن في مدينة فالشوبنغ السويدية المعرض المشترك للفنان العراقي عبد الكريم سعدون والغرافيكي السويدي ماتس سفينسون اعتبارا من 25 أيلول ولغاية 23 تشرين الأول 2016 .
رحلة الفنان السويدي هي رحلة داخلية معرفية في عميلة تطور عمله الفني منذ بدأ اختياره قطعة النحاس الى طبعته النهائية حيث قدم خمس طبعات تجريبية لعمل غرافيكي واحد من مجموع اعماله البالغة عشرة اعمال, مزج الفنان طريقتي الحفر بالحامض والابرة الجافة على النحاس وتراوحت احجام اعماله بين 50 × 60 و67 × 90 سنتمترا وهو حجم كبير, ما اثار حفيظتي في قلة طبعاته (20 او 50 طبعة لكل عمل ) فأتاني الجواب انه كان مجبرا على اختيار النحاس الرقيق, 2 مليمترا سمكا, لرخص ثمنه... هنا يتلازم الاقتصاد مع جودة العمل الفني فمن الطبيعي ان جودة الصورة تعتمد على نوعية الكاميرا وسعرها ثم طرق المعالجة بعد ذلك, كذلك الحال بالنسبة للفنان التشكيلي التقليدي وهذا ليس حقيقيا بدليل إن تفكيك المنظومات الفنية التقليدية افضت الى بدائل تعبيرية اخرى كالمنتج الصناعي الجاهز مثلا كما في عمل بيكاسو النحتي الشهير "رأس الثور, 1943" قد ترضي الشغف في البحث والتدقيق فنجد الفنان الغرافيكي ماتس سفينسون يحيي حفلا موسيقيا مساء في صالة العرض نفسها كعازف على الغيتار, هذه صفة عامة للفنان الما بعد حداثي, ان تكون فنانا متعددا مبتعدا عن التخصص والمرجعيات.
اما الفنان عبد الكريم سعدون فقد قدم 17 عملا, تراوحت بين التركيب واللوحة المسندية التي تجد فيها مزجا للكثير من انواع الفنون كالنحت والغرافيك والرسم واالكتابة وبأحجام متفاوتة بوضوح بشكل يبعث على التبعثر المقصود الذي يثير اسئلة تخص الجانب الما بعد حداثي في عملية تحرك فكري حر واع. اشتغل الفنان على موضوعة الرحلة من العراق الى السويد وكيفية التواصل مع المتلقي الجديد وفهمه الدلالة وفقا للبيئة الجديدة وماخلفته الحروب المستمرة من آثار على بنية الثقافة والمجتمع في العراق وتعريفه الوطن:" انه المكان الذي يوفر لي الامان والحرية" كما ورد في فولدر المعرض وباللغتين السويدية والعربية. يقدم فولدر المعرض للزائر مدخلا لموضوعة المعرض وهي رحلتان وحالما تدخل صالة العرض وتدرس الاعمال تكتشف انهما رحلتان مختلفتان من حيث المعنى والمكان وتاثيراته على منتج الفنان, حيث اكد الفنان عبد الكريم سعدون على تشخيص المهرج وتوظيف القبلة كدلالة انسانية لها معانيها المعروفة لدى كل الانساق في كل المجتمعات وايضا استخدم الاختام البريدية وكولاج طوابع بريدية على شكل مثلث ربما كإشارة من الفنان لتذكر تقليد قد انتهى العمل به ولكنه اليوم جزءا من الذاكرة, وظف الفنان عبد الكريم سعدون الاحرف اللاتينية اما بشكل ما يشبه الختم البريدي او تكوينا مكملا للأشكال المحيطة بها ليصبح ركنا مهما في التجديد الواعي الحداثي في تجارب الفنان التي تتخذ من السيميائية منطلقا لها.شكل المكان وموجوداته في الذاكرة العراقية تاريخا يرتبط بوجدان الفرد اينما يعيش, سواء في بغداد او الموصل او البصرة او حتى في اية قرية نائية ولخضوعه إلى نظام النسق الجمعي الذي يتضارب, على الاغلب, مع امنيات الفرد وتطلعاته في التغيير والتحديث ما ساعد على ولادة ذوق عام ورأي موحد في النظر الى كل الاشياء لتغذي وتعزز من مكانة الدلالة والرمز كما نجدها في خيول الفنان الرائد فائق حسن التي هي لا تختلف كثيرا من حيث الدلالة عن خيول الفنان كاظم حيدر او دلالة القباب التراثية او الشناشيل او الى اخره من الدلالات العربية العراقية التي تؤكد على الهوية في حين نحن نعيش في عصر يلغي الهوية والآيدليوجيات الكبرى كالشيوعية مثلا التي قد تفضي الى الانزواء والعزلة والتمسك بثقافة الانغلاق لتقويضها حرية الفرد. الفن التشكيلي ليس هو فقط الانسان وما جاوره من اشياء, واذا لم تجد شكلا محددا في العمل الفني فليس لك الحق مطلقا ان لا تنسبها إلى الفن وهنا يحضرني ما قاله العلامة ابو حامد الغزالي " ميزة العقل هي قدرته على كشف عجزه" بمعنى اذا فكرت مليا واكتشفت عجزك فانك صادق سوي. وقد تكون مبدعا واما اذا لم تكتشف عجزك فانك لست في منطقة العقل اصلا.
ارى ان الفن التشكيلي العراقي مازال يعيش في زمن آخر فقد فيه حداثته المشروطة بالزمن. الشارع العراقي وموجوداته من الناس والاشياء وحركته الديموغرافية اليوم تشير بشكل جلي الى انفصال التشكيل العراقي المعاصر عن مرجعيته الاوربية والمحلية.