ادب وفن

"تجمع الفرق المسرحية الأهلية" يطلق "جنة في مركز الإنعاش" / عبد العزيز لازم

انبثق هذا التكوين المسرحي النشيط باسم "التجمع" منذ فترة ليست قصيرة ليملأ فراغا هائلا يحيط بالحركة المسرحية العراقية بفعل اساءات كثيرة ارادتها له السلطات الثقافية والسياسية المتنفذة، فمنذ خمسينيات القرن المنصرم لم يشهد المسرح العراقي تعطيلا مخطط له مثل ما يعيشه اليوم بعد ان تسربت سمعته الخلاقة الى كافة أصقاع العالم العربي . وكأن "تجمع الفرق المسرحية الأهلية" ارادت تمثيل كل المسرح العراقي مجسدا بالفرق الشعبية التي انعشته وارست حجر الأساس لأعماله. فقد دأب المسرحيون العراقيون منذ ظهور الفرق المسرحية والاذاعية العشوائية في خمسينيات القرن المنصرم على ان يحفروا في الصخر، من أجل انجاز الاعمال الصعبة، دون تلقي اي دعم او عون من السلطات الرسمية، و ظهر مسرحيون استطاعوا اضافة مساحات تنويرية شاسعة، لجمهور قد تعطش دائما لمشاهدة اعمالهم والتفاعل معها . كما خرجت من بين ايديهم اعمال مسرحية حصدت الاعجاب من لدن المتخصصين العر ب وغير العرب.
لكن المسرح العراقي في الحقبة الراهنة بات يئن تحت وطأة الإفقار وقلة الاعتبار والتعطيل والتشكيك من قبل السلطات المسؤولة في مجال الثقافة.
وقد لخصت كلمة التجمع التي القيت في يوم المسرح العالمي هذا الحال بالقول:"... ويتمنى "التجمع" على الدولة دعم الفن والفنانين وتوفير المسارح للفرق المسرحية الاهلية وتزويدها بسلف لإنتاج مسرحياتها السنوية بدل من تحجيمها ودفعها نحو الضمور , كما نرى اليوم. فذاك مسرح بغداد قد اصبح مكبا للنفايات ومسرح الستين كرسي تم انتزاعه من قبل النظام السابق من فرقة المسرح الشعبي ليحوله الى معمل خياطة.
يحاول هذا التجمع الذي يعمل بموارد شحيحه اخذ زمام المبادرة ليعيد امجاد المسرح العراقي في ظل قحط مزر من الدعم الحكومي، وتحاول المجموعة التي يقودها الفنان الدكتور صبحي الخزعلي، وعضوية كل من الفنانين د. زهير البياتي وعدنان شلاش وخالد عودة، والتي اتخذت من صالة بيتنا الثقافي في ساحة الاندلس خشبة شعبية متواضعة لعرض اعمالها، حيث شهدت منصة هذا البيت استعراضات ثقافية متعددة ساهمت في توسيع مساحة التنوير الشعبي لأكبر تجمع جماهيري ممكن طيلة اشهر السنة كان لمجموعة تجمع الفرق المسرحية الأهلية حصة ملحوظة في ذلك حسب اختصاصه بل تعدى هذا الاختصاص مؤخرا الى الخوض في فن الفيلم القصير، بعد ان توسع في متابعة الاحداث المؤثرة في حياة الناس، ونشير الى ان التجمع قد عرض أعماله في صالات اخرى، مستقطبا عشاقا آخرين للمسرح العراقي، محاولين بدأب إحياء تقاليده المميزة.
الفيلم القصير الذي عرض في منتدى بيتنا الثقافي في 29-9-2016 بعنوان "جنة في مركز الإنعاش "هو من عمل الفنان خالد عودة، عضو التجمع ومن المشاركين في مسرحية الصفحة الاخيرة، التي عرضت في المكان ذاته قبل بضعة اشهر واستقطبت اهتمام عدد كبير من الجمهور، ناشرة امارات المسرة في وجدانهم. المناسبة التي هيمنت على مجرى الفيلم هي انضمام اهوار العراق الى مظلة منظمة اليونسكو العالمي، ما يعني نظريا حماية هذا الوجود التاريخي من الأخطار التي تعرض لها في الحقبة الاخيرة، كالجفاف وانعدام العناية بالجوانب السياحية والاقتصادية التي تزخر بها. جمع الفنان خالد عودة معداته ورحل مع اصدقائه الى منطقة الاهوار الجنوبية، ليقضوا هناك خمسة عشر يوما بين المياه والناس، ومخلوقات المياه الاخرى. صارت الكاميرا عين "اتينا" الاسطورية التي وصفت تضاريس الارض وهو يرتقي صهوة النسر الذي رفعه الى السماء كما تقول الاسطورة السومرية. جهد الفنان خالد عودة في ان يجمع بين إنسان الأهوار ومخلوقاتها الأخرى . فهذا الانسان الفريد يعيش عليها ومعها ومن أجلها في وحدة مميزة تكونت بفعل الظروف التاريخية.
التقطت الكاميرة نماذج من حياة الناس ونماذج من الطبيعة الخارجية . بين لقاءات مع الانسان يتحدث فيها حول ظروفه ولقطات من طريقته في استغلال الطبيعة لإدامة حياته وتحسين عيشه.
ولا يمكن للمشاهد ان ينسى منظر تلك الصبية شبه العارية وهي تتقافز على ظهور الجاموس الناقع في الماء لتقود القطيع الى الجهة التي تريدها . إن الجذل الذي تملك الصبية المغامرة وهي تقوم بحركاتها الخطرة من دابة الى أخرى يؤسس لرسالة اجتماعية مفادها ان الأهوار وناسها يتحدون الجفاف والموت الذي يريد الطغاة فرضه عليهم. واصبحت نباتات القصب والبردي تتراقص على إيقاع تلك الحركات وتلك الوحدة. استطاع الفلم أن يرسم النبض الخلاق الذي يغذي حياة هؤلاء الناس والمخلوقات الحية التي يعيشون على ما تدره عليهم. ورغم ان المقابلات التي ادارها القائمون على الفيلم اوضحت مقدار الضيق الذي يهيمن على حياتهم، في ظل شح العناية وقلة الاعتبار الذي يعاني منها اهل المياه والجاموس والبردي والحيوانات النادرة.
العالم يعرف ان هذا الجزء من البلاد كان قد احتضن حضارات ما زال إشعاعها يسكن خيال البشر، ويمثل الهاما هائلا للعلماء والمؤرخين والآثاريين.
استخدم المصور اللقطات القريبة والبعيدة في توازن محسوب لخدمة الفكرة الفنية ومضمونها. وقد حاول صاحب العمل استصراخ الضمائر وتنبيه العقول، لتبني مشكلة طال زمان اللعب عليها والمتاجرة فيها . نعتقد ان العمل استطاع تحقيق ذلك بشكل خلاق رغم صعوبة السفر الى مناطق الاهوار بإمكانيات فقيرة . لقد تعايش المداخلون مع أجواء الفيلم ومع بيئته المناسبة فكان ان قدم خبير الإعلام العراقي سمير ياسين العبيدي قسما منهم قبل عرض الفيلم للحديث عن المناسبة والقسم الآخر بعد عرض الفيلم ليتحدثوا عن الجوانب الفنية والانسانية التي اثارها في نفوسهم ، فأوضح كاتب هذه السطور ان الأهوار ليست وجودا جغرافيا فقط، بل هي كيان وجودي أزلي استثمره الانسان كجزء من صراعه مع الطبيعة، فتكون ذلك النوع من الوحدة بين الانسان والطبيعة . أما الشاعر عريان السيد خلف الذي عاش بالقرب من الاهوار واستلهم اغانيها لصياغة قوافي شعره الخصب فقد افاض في الحديث عن طبائع الجاموس التي رصدها عن كثب فالقطعان تعود الى مكان عيشها دونما حاجة الى من يسوقها واشار الى ذلك النوع من السلوك لدى ذكر الجاموس وهو اقرب الى سلوك البشر فذلك الحيوان يرفض ان يتزاوج مع امه وإن شعر بانه خدع من قبل الرعاة ليتموا ذلك يخور ويغضب وقيل انه يلجا الى الهرب من المكان الذي اضطر الى اتمام التزاوج فيه مع الدابة التي ولدته.
اما الروائي حنون مجيد، فقد روى قصة مجموعة من أهل الاهوار الذين اصروا على اقامة حفل زفافهم على الزوارق فوق سطح المياه، الا ان موكب العرس غرق في تلك المياه الفوارة آنذاك.
وكانت للشعر كلمته في المناسبة فتغنى الشاعر الشعبي ثامر العتابي بدور الاهوار في حماية المناضلين المعارضين للديكتاتورية . لم يتأخر الفنانون في الاحتفاء بالأهوار فقدمت الفرقة التي يديرها الفنان محمد زبون وصلات غنائية مؤثرة بمشاركة عازف العود ناظم الأصيل والمطرب يوسف الربيعي.
المخرج السينمائي والناقد حسين السلمان استعرض تاريخ نشوء الفيلم الوثائقي موضحا ان الفيلم المعروض افتقر الى وحدة الموضوع ولم يستثمر امكانيات المونتاج في بنائه الفني. وقد ركز الكاتب فاروق بابان على أهمية فهم المعنى العميق لتمسك المرأة المسنة الظاهرة في الفيلم بالبقاء في أرض الأهوار رغم رحيل اولادها الى بغداد بحثا عن مورد الرزق الذي صار شحيحا في هذه الأراضي المظلومة. إن النشاط الواضح الذي تقوم به تلك الفرقة لتقديم اعمال مسرحية سيؤهلها لإشغال موقع بارز من أجل اعادة الاعتبار إلى المسرح العراقي وتقاليده.