ادب وفن

زمن عريان السيد خلف قصيدة " المعيبر عبد " إنموذجا / عبد العزيز لازم

هل هي الصدفه التي اطلقت على السيد عريان السيد خلف هذا الاسم ؟ فالعريان تعني المكشوف وتعني ذلك الذي يملك الحقيقة دون أن يستعيرها من الآخرين وهو بالتالي لا يخشى الكشف لأن الكشف لديه هو ازاحة اللثام عن الحقيقة وهي تقع ضمن وظائفه ولكن بوسائل الفنان لذلك فهو المكشوف والكاشف , ويتجلى ذلك باعلى صورة في شعره الذي وإن تلفع بالرمز الا انه ليس رمزا ملغزا بل تجده معبأ بالدهشة إن طرقت بابه او تعرفت على تفجراته اللفظية الداخلية والخارجية.
رغم ان عريان السيد خلف عاش بين سطوات اجتماعية كرست لحمايته وتعظيم مكانته الا انه استطاع ان ينأى بنفسه عن تلك السطوات لأن روحه كانت تحلق في أجواء بعيدة عن مرامي تلك السطوات. كان أخواله من شيوخ " اقطاعيي" المنطقة " قلعة سكر " بكل ما يعني ذلك من ترويع للسكان الفقراء والاستعلاء عليهم اضافة الى استغلالهم. أما السطوة الثانية فهي سطوة النسب الى سلالة كريمة هي اسرة النبي محمد بما تحمله من تأثير ومهابة على عموم الناس. إن هذه السطوة تقود الى سطوة اخرى هي سطوة المال فعائلة السيد عريان السيد خلف هي عمليا من ملاك الأراضي ومن اصحاب المضائف المميزة في تلك المنطقة. لكن مضيف ,السيد خلف لم يكرس فقط لتقديم الطعام والقهوة لكل من يحضر اليه بل كرس ايضا لمجالس الشعر والادب وقصص الحكمة. لذلك كان مريدوه هم من محبي الثقافة ومن يجيدون الإصغاء لما يسمعون ويطبقون معانيها على مواقفهم.
نشأ الشاعر في هذه الأجواء مكتسبا عين المحلل والدارس معززة بسخونة القلب. وضمِن هذا الحال احتراما قسريا للشاعر من قبل اقرانه الطلبة وشباب المنطقة ومهابة لم يقصد تكوينها. لم تستطع روحه التعايش مع تلك المهابة وذلك النوع من الاحترام فاراد ان يخلق نوعا آخر من الإحترام بقوة الانتماء السياسي، بل أعد عدته ليعارض الأسباب التي ولدتهما والوقوف ضدهما. وكان سلاحه الشعر والسياسة. كان والده شاعرا ووالدته تحفظ الشعر واخته الكبرى شاعرة. اما لغتهم الشعرية فهي لغة الشعب. فتناسج الشعر مع السياسة التي عمدها الانتماء المباشر الى المنظمات الديمقراطية والحزب الشيوعي العراقي بخاصة فكان ان استقرت نفسه للدفاع عن المظلومين و"هوى الناس" كما عبّر في قصيدته الشهيرة "المعيبر عبد" الشعبية التي طلب ان يلقيها على حشد من الناس تجمعوا في صالة بيتنا الثقافي ليستمعوا الى شعره وحكاياه.
رغم ضيق مساحتها اللفظية تعزز القصيدة خطابها الشعري برمزية عالية تنشر حولها شعاعا جبارا من المعاني التي لا يعجز القارئ عن التوصل اليها وهذه إحدى سجايا شعر السيد عريان القائمة على احترام القارئ وإرساء حاضنات ثابتة للصداقة معه. تبدأ رحلتة الرمزية من العنوان نفسه، فالمعيبر يحمل وجهين رمزيين يتعلق احدهما بالوظيفة والثاني بالانسان الذي يقوم بالوظيفة فهو يتولى مساعدة الناس خاصة المسافرين على الانتقال من ضفة النهر الى الضفة الأخرى باكبر قدر من الأمان والراحة. هنا يبرز المعيبر باعتباره المخلّص الحميم وهو قريب من قلوب الناس خاصة اولئك الذين يركبون زورقه فتنشأ صداقات وعلاقات حميمة بين المعيبر والعابرين الى بر الأمان.يلجأ الشاعر الى تكوين صور مركبة لوصف موقف المعيبر عبد من ضيوفه الذين استقروا في حضن زورقه. فهذا الكائن المخلّص لايكتفي بنقل العابرين الى ضفة أخرى فقط بل يجهد نفسه لابداء أشكال مختلفة من العناية بضيوفه. (عبد ستر قميصه اعله اليعبرون) نرى هنا عبد لايرحب بضيوفه فقط بل تخلى عن ممتلكاته الخاصة (قميصه) وجعله ستارا لحماية العابرين ثم (شعل روحه , بدربهم. يكشف الليل) اي ان عبد تخطى مسألة التخلي عن ممتلكاته الشخصية الى روحه وحوّلها الى مشعل ليضيء دروب العبور في ليل بهيم. إن دخول الليل كعنصر زمني لتوقيت فعل العبور ينذر بوجود خطر داهم على حياة العابرين ونشط المعيبر من أجل توفير الحماية لهم. بهذا سيكون هو واحدا منهم بعد ان نجح في الاندماج معهم. ويعبّر باصرار عن هذا الاندماج بصور أخرى تتصاعد في سخونتها الدرامية فهو: (فرش جفنة السمح, عن لايعثرون.) اي ان عبد يسعى الى حمايتهم من العثرة داخل الزورق وتسهيل عملية ركوبهم. ويمكن فهم (لايعثرون) على اساس امتداداته لمرحلة ما بعد العبور اي حمياتهم من مخاطر العثرات لأن هذا الفهم يتناغم مع الطبيعة الرمزية العالية لشخصية (المعيبر عبد). تواصل تلك الشخصية رسم تفاصيل رحلتها ومنجزاتها من أجل خدمة العابرين، فها هو عبد: (وتنزر يغلب السابج -على الريح) إنه في عجلة من أمره، وهو هنا يستنفر قواه الروحية كي يتسابق مع الريح ويغلبها في مسعاه نحو الضفة الاخرى. تذهب به نشوة النصر ونجاحه في عمله فيكتسي وجهه باللون الأحمر بتأثير ذلك (ويحومر منتشي - بطور اليغنون) يحضر الغناء هنا الى وجدان المعيبر كمن خاض معركة ضارية وانتصر فيها بل يتصاعد احتفاله بأن: (يتمايز نخوته – وصوته – وهوى الناس – وشبابه – اليحلم – بليلة كلبدون) ولكي يكتمل الاحتفال ويبلغ ذروته يتم أستحضار الالوان والاحلام والغناء والنخوة والكلبدون ولنلاحظ ان الكلبدون هو خيوط الذهب التي تطرز عباءة العريس ليلة عرسه وهي ترمز للكرم والنخوة التي يتحلى بها بعض الناس من لابسي الكلبدون ومنهم المعيبر عبد. يتعين علينا ملاحظة ان الرمز الذي يمثله المعيبر يقترب من معنى الطاقة أو القوة الفاعلة اكثر منه من معنى الشخص الفرد ذي السجايا النادرة ولو تتبعنا سيرة الشاعر عريان السيد خلف الحياتية وانتماءه الى قوى اليسار وتحديدا الحزب الشيوعي العراقي سنتمكن بسهولة من رؤية المعاني الكبرى التي تناولتها القصيدة فالشخصية الرئيسية قد توشحت بصفات تناسب الحزب الشيوعي باعتباره المخلّص القادر على نقل الناس المحبين الباحثين عن وسائل إغناء حياتهم بما يخلصهم مما علق بها من أدران التخلف جراء الظلم الشرس المزمن. وبهذا تكون القوة السياسية والاجتماعية التي يمثلها المعيبرعبد هي القوة القادرة على قيادتهم الى بر الأمان. ويبقى الزمن الذي يمثله عريان السيد خلف هو زمن عريان اي إنه زمن مكشوف لايطيق الاسرار والالغاز بل يضم الكثير من طاقة الصداقة والالتحام بالناس وقضاياهم.