ادب وفن

متوالية الوجع العراقي في مسرحية «أبصم باسم الله» / عبد علي حسن

أقدم الفنان ثائر هادي جبارة على خوض تجربة جديدة إخراجاً وتمثيلا لمسرحية "أبصم باسم الله". وهي من تأليف الفنان والكاتب المسرحي سعد هدابي، على خشبة مسرح مديرية النشاط المسرحي في محافظة بابل في مفتتح تشرين الأول 2016.
يقوم نص العرض المسرحي على ثنائية الأنا / الآخر ، فقد كان الطرف الثاني – الآخر – مشكلاً داخلياً وخارجياً ، فقد تنوعت ممارسات الأنظمة السياسية السالفة في العراق بشتى الوسائل لانتهاك الشخصية العراقية واستلابها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وحتى ثقافياً الأمر الذي دفع الشخصية المركزية "أيوب" الى الهجرة تخلصاً من عوامل انتهاك وجوده البشري ليواجه بممارسات استكمالية لانتهاك شخصيته مجدداً في الدول الأوربية التي هاجر إليها ، وبذا فان الآخر هو الطرف المضاد للشخصية داخلياً وخارجياً وبمعنى آخر فان "الأنا" الذي مثّلته الشخصية المركزية لا ينتمي الى الآخر سواء كان داخل الوطن أو خارجه إذ ان هذا الطرف الثاني من الثنائية كوّن عاملا مضاداً لتفاصيل هوية الشخصية المركزية "الأنا" ،
ولأجل الكشف عن تلك الممارسات جاء بناء نص العرض المسرحي لينحو في اتجاه تقديم مونودراما "مونودراما حكائية" يبوح من خلالها "أيوب" بما تعرض له في العقود السابقة لهجرته خاصة باعتباره وسيلة من وسائل الحفاظ على هيمنة الأنظمة السياسية التي أدخلته في سلسلة من الحروب أفرزت نتائجها الاجتماعية السلبية على الفرد العراقي وتعرضه الى محاولات إنهاء وجوده البشري ، ولعل تلك المحطات التي أقدم "أيوب" على البوح بها كانت سلسلة من الانتهاكات التي أسهمت بالتالي في فقدانه حتى هويته الشخصية عبر إدمانه على تناول حبوب الهلوسة والمخدرة التي ربما كانت محاولة للهروب من الواقع القاسي الذي كان يعانيه في بلاد المهجر، ويمتلك هذا الفعل دلالة على عدم تمكنه من اتخاذ موقف يشكل تحولا في حياته التي فقد الكثير من مقوماتها البشرية ، لقد تمكن سرد هذه المحطات من تشكيل الصور السردية بصرياً لتقديم بانوراما للواقع العراقي عبر أربعة عقود منصرمة بدءا من هيمنة النظام الشمولي السابق وحتى ممارسات الدول الأوربية التي تبنت الدعوة إلى فتح الحدود أمام المهاجرين العراقيين نتيجة لانعدام الظروف الأمنية وقيام الحروب الداخلية المتسمة بالطائفية بعد إعلان المستشارة الألمانية ميركل ، إلا ان النص يؤكد ان لا حرية بدون ثمن وما الهجرة الى هذه الدول إلا فقدان للشخصية ومسخ لكل مقومات الوجود البشري لعل أهمها ما يعانيه المهاجر من وضعه أمام تساؤلات واتهامات بعد اخذ بصمته من الدول التي يهاجر إليها والمعاملة اللا إنسانية من اجل الحصول على اللجوء . أو قبوله مواطناً مهاجراً ووضعه تحت المراقبة والاستجوابات المستمرة التي تضعه في وضع غير مستقر فاقداً لأدنى شروط الآدمية والحرية كما ويستثير النص جملة من الوقائع الحاصلة فعلا على ارض الواقع كمحاولات الهجرة غير الشرعية عبر البحر التي تقوم بها عصابات التهريب ومحاولات الابتزاز التي يتعرض لها المهاجر ومخاطر مواجهة الغرق كما حصل لعدد من القوارب وغرق العديد من الأطفال والنساء، ولا شك بان معايشة المتلقي المعاصر هذه الأحداث وربما كان في يوم ما طرفا فيها قد جعل نص العرض المسرحي ساحة واقع عراقي معاش الى مستوى تماهي المتلقي كثيرا مع كل ما قدم من مفاهيم تضرب بالجذور الاجتماعية المكرسة للشخصية العراقية عبر العهود المنصرمة لتبقى جملة من الأسئلة والوقائع واستمرارها أمرا لا يزال قائما ويواجه في كل حين الشخصية العراقية المستلبة والمنتهكة والمحاولة دون الخلاص من هذا الوضع الاستثنائي اللا انساني بما في ذلك محاولات الهجرة من الوطن باتجاه المنافي بحثاً عن الأمان.
لقد تشكل الخطاب الجمالي في نص العرض المسرحي عبر تضافر العلامات البصرية والمنطوقة الثابتة والمتحولة على ان العلامة الرئيسة للعرض كانت الشخصية المركزية بما بثته من علامات جسدية ومنطوقة قام بها وباقتدار الفنان ثائر هادي الذي بذل جهدا إخراجيا حاول من خلاله تقديم نص عرض بصري جمالي من خلال استخدامه العلامة المركزية الثابتة المتحولة وهي القارب بوجهيه فتارة يحيل الى شراع القارب للدلالة على محاولات الهجرة البحرية وأخرى إلى جدار يمارس عليه أفعالا مسرحية أخرى حملت العديد من الدلالات المشكّلة للخطاب المفاهيمي الذي كرسه متن النص اللغوي الذي وجد في اللهجة العامية قدرة على النفاذ الى ذاكرة المتلقي والتفاعل معه فضلا عن القدرات التعبيرية للهجة العامية القريبة من الفعل اللغوي اليومي للمتلقي ، كما توسل نص العرض بجملة من العلامات البصرية الثابتة والمتحولة والتي شكلت عبئا على انسيابية العرض المسرحي وعلامات فائضة كان بالإمكان اختزال الكثير منها كما ان إقحام المجموعات في الفعل المسرحي بدا فائضاً لم يسهم في تكريس مونودرامية البناء الدرامي للعرض المسرحي فلا وجود لحاجة درامية ولا جمالية للمشاهد التي ساهمت بها المجموعة لاسيما المشهد الأخير بعد ان يرفع أيوب أصبعه الذي يشير الى البصمة والذي كان من الممكن ان ينتهي العرض المسرحي عند آخر جملة أطلقها ، أما الأجزاء المكملة للمنظومة السينوغرافية كالإضاءة والموسيقى فقد أسهمت في تخليق الأثر الجمالي المؤثر والممتلك العديد من الدلالات البصرية التي مكنت المتلقي من إنتاج نصه الخاص عبر تأويله العلامات البصرية الآنفة الذكر.
لقد أسهمت هذه التجربة الجديدة من تأكيد وتكريس اهتمام الفنان العراقي المسرحي منه تحديدا بالمشكلات التي تواجه المواطن وعلى كافة الصعد وتقديمها وفق اتجاه جمالي لا يعدم اثر الفعل المسرحي تمثيلا وتأثيثا لساحة العرض المسرحي بما يضمن تفاعل المتلقي مع ما يبث على الخشبة التي كان من الممكن ان تشهد مساهمة من قبل المتلقي عبر تغريب بعض الأفعال المسرحية سيما وان اسلوب المونودراما المكرس للشخصية الواحدة قادر على تخليق التفاعل المباشر مع الجمهور دون فصل أو عزل ما يقدم على خشبة المسرح عن الواقع المعاش ، ولعل نص العرض المسرحي قد تمكن من ذلك في بعض مفاصله.
تحية لكل كادر المسرحية لا سيما المؤلف الفنان سعد هدابي والمخرج والممثل الفنان ثائر هادي جبارة، وكذلك المجموعة ومصممي الإضاءة والموسيقى فيما بذلوه من جهد مخلص في محايثة الوضع العراقي وهموم المواطن الذي يبقى على علاقة دائمية مع الوطن وفاعلا في تقدمه دون استلاب وانتهاك ومؤكدا في الوقت ذاته على ان محاولات الهجرة ومغادرة الوطن هي مغادرة قسرية إجبارية تمثل حالة خلاص لوضع لا إنساني.