ادب وفن

دراسة موسعة للجناس في الابوذية (*) القسم الاول / د. هاشم الفريجي

لا يعرف بالضبط الوازع الذي دفع شعراء العامية إلى الاتجاه صوب الجناس في الأبوذية والموال وغيرها من الفنون. ونحن رغم اعترافنا بان الأدب الشعبي ما هو إلا امتداد للأدب الفصيح لكن كتب الأدب لا تطالعنا بشيء يشبه الأبوذية والموال في موضوع جناساته، إلا أنَّ فن المواليا الذي يعتقد بان الأبوذية قد نشا منه كان قد بدا فصيحا ثم استقر شعبيا على أربعة مصاريع مصرّعة او ناقصة التصريع، مع ميل إلى استعمال الجناس فيه وهو الأمر الذي التصق بهذا الفن ولم يغادره أبدا.
وقد أبدعت تلك الصفوة الرائعة من شعراء الأبوذية في إرفادنا بالمئات من الأبيات الخالدة ذات المعاني الرائعة والبلاغة الراقية والتأثير الأخاذ.
وإذا كانت الغاية حسب ما اعتقد هي شد السامع وجلب انتباهه وسهولة حفظ البيت ووسمه بطابع الجناس لكي يبقى معروفا باسم صاحبه؛ في وقت لا يتوفر فيه التوثيق والكتابة، فإنَّ الجناس لم يكن ولا يفضل أنْ يكون أحجية يحار الناس في فك رموزها.
كما يفضل أنْ يكون جناسا تاما واضحا لا يعتمد على حروف محذوفة او مغيرة، وأنْ تكون جناسات الشاعر من كلمات يتم تداولها في لهجتنا العامية كما هي دون تغيير قدر المستطاع.
والجناس المستخدم في الشعر العامي يمتزج فيه المفرد والمركب وإنَّ الكثير من الجناسات العامية غير تامة (ناقصة) بسبب اختلاف حروفها او حركاتها حيث يلجأ عدد من الشعراء إلى التلاعب بحروف العلة وإبدالها ببعضها او إضافتها مرة وحذفها مرة أخرى في نفس الكلمة لصياغة جناسات جديدة، مما يؤدي إلى تغيير لفظ الكلمات بشكل واضح.
وفي كثير من أبيات الأبوذية تخرج الكلمات عن شروط الجناس وتلفظ بشكل مغاير لطريقة لفظها في العامية العادية.
وأحسن الجناس ما كان تاما او ناقصا بسبب بعض الحركات، فإذا تعدى ذلك ذهب رونقه وقل تأثيره.
إنَّ من أهم الدعامات التي تسند بيت الأبوذية هو صحة جناساته فبدونها يخرج من تعريف الأبوذية. إضافة إلى أمور عامة أخرى تسري على كل أنواع الشعر نذكر منها:
1- ضبطه بالوزن كما بينا سابقا.
2- أنْ تكون أشطره الأربعة مترابطة يتبع بعضها بعضا وتتحدث عن موضوع واحد وليس عن مواضيع عديدة غير مترابطة.
3- إنَّ خير الشعر ما كان حكمة وخير الحكمة ما كانت شعرا.
1- الجناس المفرد وأقسامه
الجناس المفرد التام
وهو جناس مكون من كلمة واحدة وقد تشابهت حروفه وحركاته. مثل هذا البيت للشاعر الخسران:
مُضَت نَاس التِعِف ابْيُوْم تَالِي
وانَا ابْتَارِيْخ عِزْهُمُ صِرِت تَالِي
رِدْتَك عُوْن الْي يَا خُوْي تَالِي
إطْلَعِت فَرَعُوْن وَنْكَرِت الخَوِيَّه
فالجناسات الثلاثة لها نفس الحروف والحركات. فالأول من (الوِلْيةْ) أي التمكن والثاني (صرت متأخرا) والثالث (فإذا بك) او وأخيرا.
وفي هذا البيت للشاعر الملا عبد الباقي العماري:
الذِّوَاْيِبْ چَلْچِلَنْ چَاليَّلْ فِيْهَا
چَنْ مَخْزَنْ الْلِيْلُوْ اتْگوْلْ فِيْهَا
آنَاْ ابْچِيْ وَمِشّ الدَّمِعْ فِيْهَا
وِهِيْ تِبْچِيْ اوْ تِمِشّ الدَّمِعْ بِيَّهْ
فالأول (فيْهَا) يعني ظلها؛ والثاني (فيْهَا) أي فمها، ؛ والثالث (فيْهَا) أي فيها الفصيحة. باعتبار الضمير (ها) جزء من الكلمة.
وكذلك البيت التالي للشاعر أبو معيشي:
زَمَانِي جَرَّد إسْيُوْفَه وَسَنْهَا
عَلَيَّه إوْ حَرِّمَتْ عَيْنِي وَسَنْهَا
وَحَگّ ِالْلِيْ فَرَضْ خَمْسَه وَسَـنْها
بَعَد هَيْهَات عَيْش ايْطِيْبِ الِيَّه
فالأول (وَسَنْهَا) أي جعلها حادة، والثاني نومها، والثالث سنّها من السُنَّة ويقصد فرض الصلاة. وجناسه الحقيقي هو (وَسَنْ).
وهذا البيت للشيخ محمد صالح السماوي أو حسين العبادي أو الشيخ عبد الحسين الحياوي:
گلِّي إشْبَلِّلَك يَا جِفِن وَنْدَاك
غِدَوْا مَا يِسْمَعُوْن ابْچاك وَنْـدَاك
لَوَن وَنّي ابْجِبَل چا صَاخ وَنْــدَاك
تِشَظَّى إوْ كِل كِتِر صَار ابْنِوِيَّه
وجناساته مفردة تامة فالأول (وَنْدَاك) جعلك نديا من الدموع، والثاني (وَنْدَاك) وَنِدَاءَك من النداء او المناداة، والثالث (وَنْدَك) تَهَدّم وصار دكّا أي تساوى بالأرض. وتلاحظ زيادة حرف الألف في جناسه الأخير لإتمام المجانسة وهي طريقة يعمد اليها الشعراء دائما كما سنلاحظ.
فالشاعر السيد محمد البطاط يقول:
سِرَت كِل البْلام إوْ شِدَه بَلْمَاي
إوْ كَنْزِ الْنَذِل صَار إعْدَاد بَلْمَاي
إشْلُوْن الْبُصِر لُو غَصَّيْت بَلْمَاي
لا يِمْرِك وَلا دِفْعَه بِدَيَّه
فالجناس الأول (بَلْمَاي) فيه ألف زائدة وأصله (بَلْمَي)القارب المعروف، والثاني (بَلْمَاي) بالمئات من الدنانير او غيرها من الأموال، والأخير (بَلْمَاي) هو الماء، وجناساته مفردة تامة.
وهذا البيت للشاعر حسين الكربلائي جناساته مفردة تامة:
الغَيْرَك مَا سِهَر طَرْفِي وَلا حَـي
وَلا لَذْلِي ابْعَرَب مَعْشَر وَلا حَـي
لانِي مَيِّت ابْشُوْگك وَلا حَي
نَحِيْل إصْبَحِت بَس النِّفَس بِيَّه
وجناسات هذا البيت من حرفين هي (حَيْ) لأنَّ (وَلا) أتت متشابهة في كل الأشطر ومكونة من حرف العطف (الواو) وكلمة (لا) للنفي.
وجناسه الأول (حَيْ) وقد قلب الجيم ياء لأنَّ أصل الكلمة (حَج) والذي (يحج) هو الذي يبقى ساهرا إلى الفجر، والثاني (حَي) من أحياء العرب، والثالث (حي) من الحياة.
وللشاعر عبد الرضا بن مطشر:
إجْرُوْحِي الدَّهَر آلَمْهِن وَدَاهِن
إوْ صِرِت أتْطَلَّب الحِكْمَه وَدَاهِن
أبَد مَا أخْضَع الدُّوْنِي وَدَاهِن
وَگل لإبْنِ الچلِب أمَّك زِچيَّه
وفي الجناس الأول اضطر الشاعر إلى تخفيف الشدّة في (وَدَاهِنْ) خضوعا للوزن والتجنيس وهو أسلوب آخر إتَّبَعَهُ الشعراء، وكان الواجب أنْ يقول (وَدّاهِنْ) جعلَهُن (يِدَّن) أي تسيل منهُن الجَرَاحَةُ. وجناسه الثاني (وَدَاهِنْ) أقوم (بِدَهِنِ) تلك الجراح على أمل الشفاء، والثالث (وَدَاهِنْ) بمعنى (أداهِنُ) أجامل على حساب الحق.
الجناس المفرد التام اللفظي
ومن الجناس المفرد ما يبدو تاما عند (لفظه) وقراءته، لكن بعض معانيه لا تتضح إلا بلفظ الجناس بطريقة أخرى غير التي كُتِب بها وبذلك يخرج من كونه جناسا تاما، وهذا ما أسميته الجناس (المفرد التام اللفظي) تفريقا له عن (الحقيقي) الذي مرت بنا أمثلته السابقة ولا وجود له في الجناسات الفصيحة. ففي هذا البيت المنسوب للشيخ عبد الرضا السوداني اوالحاج عبد الرسول شريف النجفي:
إشْتِظِن يِبْرَى الجَرِح عُگبَك وَيِلْــتَم
جِفَيْت إوْ بِالحَشَا مِنَّك وَيِلْـتَم
الثَّرَيَّا الْهَا شَمِل سَبْعَه وَيِلْــتَم
وَنَا وَاحِد حَبِيْبِي إوْ شَح عَلَيَّه
وفي الجناس الثاني (وَيِل تَمْ) يريد به (وَيْل تَمْ) أي تم الوَيْل بسبب جفاء حبيبه, فاضطر إلى كسر حرف الياء للمحافظة على لفظ الجناس والوزن دون الإلتفات إلى اضطراب المعنى لأنَّ (وَيِلْ) ليست (وَيْل) كما هو واضح. فهذا الجناس تام لفظي لا حقيقي ومثله كثير.
ويقول حميد ملا سلمان الشكرچي:
رَاسِي إمْنِ الْهَضُم صَارَت وَشِـيْبِي
رَيْت ابْعَار عَيْرَتْنِي وَشِيْبِي
أبْشَعَر رَاسِي تِعَيِّرْنِي وَشِيْبِي
إوْ وِقَار الشَّيْب بِيْه مَا دِرت هِيَّه
والشاعر في جناسه الأول (وَشِيْبِيْ) يقصد (وَشَّه بِيْهْ) أي أصبحت في رأسه (وَشَّهْ) من (الهضم) كما يقول.
وإذا كان الشاعر السابق قد اختلف جناسه (بحركة) حرف الياء فقط فإنَّ الشاعر هنا أتى بجناس بعيد عن المعنى المقصود باختلاف (الحروف والحركات)، لأنَّ (وَشِيْ) ليس (وَشَّه) و (بِيْ) ليس (بِهْ). فجناسه الأول مشابه لفظا لجناسه الثاني (وَشِيْبَيْ) الذي يقصد منه (وشيءٍ بي) حيث يقول عيرتني (بشيء بي) يمكن أنْ يكون عارا غير الشيب. وقد جاء صحيحا كما جاء جناسه الثالث صحيحا أيضا.
فجناسه مفرد تام لفظي لا حقيقي أي أنَّ الجناس الأول لا معنى له على الحقيقة لأنَّ اللهجة العامية لا تحتوي مفردة او مقطعا لفظه (وَشِيْبَيْ) بمعنى (وَشَّة بِيْهْ).
ويقول الشاعر عبد الكريم العلاف:
النَاس إنْجُوْم وَآنَا دُوْم جَدِّي
إوْ صُفَى لِلْغَيْر يَا مَخْلُوْگ جَـدِّي
زِرَعْت الْمَجِد آنَا ابْوَطَن جَـدِّي
جِنَى غِيْرِي الْثَمَر غَصْبَن عَلَيَّه
ونقاشنا ينصب على جناسه الأول (جَدِّيْ) وهو يقصد نجم (الجَدِيْ) ولولا ذكر النجوم في الشطر لما أمكن الاهتداء إلى المعنى، ورغم ذلك فإنَّ معناه بعيد عن لفظه. فترك الشاعر حرف الجيم مشددا رغم عدم صحته حفاظا على التجنيس والوزن. ولو قال:
(النَاس ابْهَزَل وَآنَا دُوْم جِدِّيْ) فيكون جناسه صحيحا (جدّي) من الجد عكس الهزل.
ويطول بنا البحث في تقصي الأمثلة المشابهة التي يخرج فيها الشعراء عن أصول الألفاظ العامية والتي لم يسمع بها أحد ولا يتداولها الناس في حديثهم اليومي من اجل الإتيان بجناسات جديدة.
وعند مقارنتنا الجناسات التامة (الحقيقية) مع هذه الجناسات (اللفظية) نرى الفرق شاسعا بين الاثنين، فالجناس الحقيقي تأتي كلماته جميلة منسابة يفهمها العراقي لأنها كلماته العامية التي يقولها كل يوم.
والجناس اللفظي يخل ببيت الشاعر ويغيّر من معانيه ويجعل جناساته أحاجي وكأنّها كلمات من لغة أخرى.
وكثيرا ما ينظم الشعراء الجناس اللفظي عندما يحاولون مجاراة القريض او توليد أبياتهم منه.
وفي استعراضي لهذه الأبيات الثلاثة الأخيرة وجدت أنَّ الشاعر الشيخ عبد الرضا السوداني قد جارى وولد بيته من بيت الوزير المهلبي:
خَلِيلَيَّ إنّي لِلثُّرَيَا لَحَاسِدُ
وَإنّي عَلَى رَيْبِ الزّمانِ لَوَاجِدُ
أيَجْمَعُ مِنْهَا شَمْلَهَا وَهْيَ سَبْعَةٌ
وَافْقِدُ مَن أحْبَبْتُهُ وَهْوَ وَاحِدُ
ــــــــــــــــ
(*) - تنطبق هذه الدراسة للجناس على جميع مجنسات الشعر الشعبي العراقي
- بعض هذه الجناسات خاصة بالشعر الشعبي من استنتاج الباحث.
- يرجى الاشارة الى الباحث والمصدر عند النقل او الاقتباس