ادب وفن

الدكتورة فوزية الدريع: «صلوات على دجلة والفرات» / مقداد مسعود

تابعتُ الدكتورة فوزية الدريع من خلال برنامجها "سيرة الحب" على شاشة احدى الفضائيات، وقرأتُ من مؤلفاتها الغزيرة، ثم التقطت ُ ثلاثة من كتبها: القبلة، الرائحة والجنس، اللمس. وقبل أيام أستوقفني كتاب ٌعلى رصيف شارع الكويت في مدينتي البصرة، لدى بائع :"صلوات على دجلة والفرات"، تصورته كتاباً ضمن حقلها المعرفي الذي اعتدنا عليه، وكانت المفاجأة هي رواية للدكتورة فوزية الدريع.
أن ينتقل مبدع من حقله التأليفي الرئيس الذي اعتدنا عليه إلى حقل تأليفي آخر، فهي انتقالة لا تخلو من مغامرة، كنقلة الممثل السينمي الذي عودنا على دور شخصية اجتماعية يظهر من خلالها على الشاشة لسنوات طويلة، كيف يستطيع الممثل أن يغير تلقينا الثابت عنه؟، ثانيا أي جهد على الممثل أيضا أن يبذله حتى ننسجم مع دوره التمثيلي الجديد؟، والسؤال نفسه في حقل المعرفيات: أي جهد بذلته الدكتورة فوزية الدريع وهي بامتياز كاختصاصية نفسية وكاتبة صحفية ومستشارة عليها أن تبذل على مستوى تقنيات الكتابة لتتخلص من أسلوب الإجراء العلمي وأسلوب السرد الاعلامي المباشر وتوفير عزلة ٍ بعيدا عن كل هذه الأجواء المتحركة من أجل الدخول في غابات السرد وفتنة الإنصات إلى حيوات محتدمة؟
*
حين انتهيتُ من قراءتي الأولى، شعرت أن المؤلفة وفرّت في روايتها نسبة عالية من أسباب التشويق السردي، وانفتحت مخيلتي على شخصية "حيدر" الذي هو قسيمي في المكان والأيديولوجيا : البصرة والانتماء إلى الحزب الشيوعي العراقي. الشخصية الشيوعية الروائية كانت مقتصرة على أعمال نجيب محفوظ وغالب هلسا ورشيد بو جدرة ثم حيدر حيدر، وبشكل وامض في "النخلة والجيران" من خلال رسالة سجين في نقرة السلمان وحتى رواية شاكر خصباك "الحقد الأسود" التي تتناول تجربة سجناء شيوعيين بعد مجازر انقلاب 8 شباط 1963 لا تسمي الهويات بأسمائها لكن في رواية "الضفاف الأخرى" للروائي الكويتي/ العراقي يتناول شخصية "كريم الناصري"، الشيوعي الموّقع على ورقة البراءة أثناء مجازر شباط 1963 في رواية "الوشم" للروائي عبد الرحمن الربيعي.
وهذه هي المرة الثانية، حسب إطلاعي على الرواية الكويتية، يبزغ ظهور شخصية شيوعية في رواية كويتية، الظهور الأول كان على يد الروائي وليد الرجيب في روايته "أما بعد" والتي تدور حول شخصية كويتية يهودية "يعقوب داود عزرا"..
*
"صلوات على دجلة والفرات"، رواية مكتظة بكل ما هو جميل وموجع.. تتشابك خيوط السرد وتتقاطع ولكن لا تنقطع حتى الصفحة الأخيرة يلتقط السرد عينة من مستقبل الكويت:
"في طاولة حميمة في مطعم رائع جلس الأربعة: خالد وعادل وأنور وأنيسة. كل واحد منهم يحمل تطلعاته وأحلامه لغد أفضل. أربعة تجمعهم روح واحدة أساسها المرح. حبهم بعضهم البعض ورغبتهم في مجتمع كويتي متفتح". هؤلاء الأربعة سيقوم غزو طاغية العراق لدولة الكويت بإنتاج سردٍ خارج التوقعات لحياتهم ..سيقيم لهم وللكويت أعراس دم.. وهذه الأعراس الدموية، تقدم قراءة أخرى للبعض مثل قراءة العارف الروحاني "روجر جبرائيل" في حواره مع "خالد" حيث يخبره روجر حول الغزو "أظنكم تمنيتموه ..! فينتفض خالد "هذا شيء لا يصدق، كيف لهم أن يتمنوا الاحتلال ومآسيه لبلدهم المسالم"! ومع استمرار حوارهما يخبره روجر "الفكرة طاقة وقوتها تكون بفعل اللاشعور. أظن تأييدكم لحرب "صدام حسين" على إيران وبفعل الطيبة الفطرية في داخلكم، خزن َ اللاشعور إحساس الذنب، وهذا يحمل في ثناياه رغبة تعذيب الذات بالمثل، لا شعوريا ربما أردتم الأذى ذاته ". وإذا كان كلام روجر "مسلفن" بكياسة دبلوماسية فإن الجندي العراقي الرافض للحرب في الكويت واللائذ في بيت كويتي، ثم ينقلونه الجندي المسكين إلى بيت "خالد" الكويتي ليتسلى خالد بتعذيبه ؟ فإن هذا الجندي، يكون أكثر شجاعة في الإجابة :"كرمكم لصدام ونظامه، ونحن لم نحصل منكم إلا زيادة في جبروته وطغيانه".
*
"زينب" امرأة بصرية متزوجة من رجل كويتي وبالكويت يلوذ "حيدر": الشيوعي العراقي شقيق المرأة، مع بداية الغزو يكون أول المنخرطين في المقاومة الكويتية.
إن رواية "صلوات على دجلة والفرات" هي رواية مشروطة بالغزو فهو مهيمنة الرواية ولهذه المهيمنة مرتكزاتها: منها تماهي الهويات في هوية إنسانية كبرى والأمر ليس سهلا بل هو السؤال الرئيس والمبثوث في الصفحة الأخيرة من الرواية على لسان "جميلة": كيف سأذهب معك إلى الكويت؟ هل سأدخل عراقية، أم روسية، والكويت مازالت تنزف كراهية مما عانت"، وحين يجيبها خالد: ستدخلين "جميلة"، تسأله: جميلة عراقية. هل تحتمل الكويت عروسا عراقية"؟، فيمسك خالد بكلتا يديها على صدره ويقول: وحده الحب سيمحو كل الفوارق والجروح وكل شيء بأوانه".
*
"صلوات على دجلة والفرات" هي رواية الماء وهو من الشخصيات الرئيسة في الرواية، بل هو الوتين "مياهكم ومياههم مريضة منذ زمن طويل يا صاحبي. والآن بفعل هذه الحرب ستمرض أكثر". ومن خلال الماء تنهض اتصالية المحبة الأممية الكبرى للسلام ويتجسد الماء في شخصية عابرة للقارات والأديان ..
*
"روجر جبرائيل" شخص انتقل من كينونة مدّمرة إلى صيرورة بمرتبة مثال أعلى فيها من زهد الحكمة الهندية وتعاليم التاو الصيني ونواميس الديانات السماوي :"حياته فيلم سينمائي طويل. حياته كان بها غضب، كان بها شهوات، كان بها عشق جسد، كان بها مخدرات، كان بها وكان بها. لكنها توقفت منذ ثلاثين سنة ليكون بها ساكن واحد هو السلام. لحظة الصفاء هذه، خلوة يحتاجها ليرتب داخله، بعض الحزن يجب أن يذهب".