ادب وفن

مظلتان لشخص واحد .. الشاعرميغيل مالذوناذو / نظام العمل المأجور.. / مقداد مسعود

من حدائق الفراهيدي في البصرة ،قطفت (كتاب الحرف الحزينة ) للشاعر ميغيل مالذوناذو ..بعد القراءة أشهدُ: هذا الديوان ليس مريضا بالفرجة على مايجري في العالم ، ولايرفع راية آيدلوجية ولايستروح غيبيات لايراها سوى الشاعر ، ولايدعي ّ بطولة ..بإختصار مفيد ، هو ديوان الذين يبيعون قوة سواعدهم كل اليوم في نظام العمل المأجور ..هذا ديواننا نحن الكادحين ..هو ديواني كعامل وديوان أصدقائي الحرفيين الذين أقتسم معهم الأمل المثلوم والهزائم الناصعة ، أصعب مافي هذا الديوان وضوحه البليغ وتدفقه العذب ..لغته البسيطة تتعاضد مع شخصيات تشبهها ،فالشعر هنا ليس تنويعا للقول، والشاعر ليس متورطا بالتأويل النصي ،بل هو منشغل بتنظيم الجملة الشعرية وتخليصها من زخارف المجاز والكناية والإستعارة ..بإختصار منحاز للمهمشين والمسحوقات إجتماعيا ..الشاعر يحصّن قصيدته من فايروس الهوس الجمالي المتعارف عليه ، يجعل قصيدته أقل شعرية !! ليريحها من كل المسؤوليات الكلامية التي تثقل كاهلها ..القصائد هنا بسيطة وفي الوقت نفسه لايمكن اتهاهمها إنها مشحونة بلغة التوصيل..إذن مايقوم به الشاعر ، يستحق من فعل القراءة : فطنة التذوق المتمهل ....قصائد هذا الديوان أشبه بألبوم صور للمحذوفين / للمحذوفات من قائمة الحفل ، لكن لايمكن للحفل ان يقام وينجح دون جهودهم / جهودهن : ساعي بريد / صانع فحم / عتّال / إسكافي / حافظ أرشيف / خيّاطة / كاتب إداريّ/ عمّال بناء /عامل مياوم / سائق شاحنة / السيدة التي تغسل ثياب الآخرين / اللامرئيّون / جامع القمامة / صانع الزجاج / اللاتي يبعن شعرهن ّ / اللاتي ينظفن المنازل / بائعة الحلويات المتجولة / الذين يؤجرون أنفسهم لمختبرات الأدوية / معاون المعاون / بائع البالونات / البائع الجوّال / بائع الموسوعات / أمينة الصندوق / الحدّاد / الحارس الليلي / عامل المنجم / الخطاط / غاسل الصحون ..وهناك أيضا : الأعمال المفقودة / الاعمال الدائمة / المتنكر لأسباب دعائية ..من هذه العنوانات يتشكل ديوان ميغيل مالذونالذو ،فهو يتحدث عن بشر يتصدون لشراسة أسباب الحياة اليومية بالكدح المستلب ، والشاعر لايطلي تجاعيد غربتهم وأغترابهم بزبدة ماوراء الغيم..ولايضّمد جراحهم بلافتات سياسية ..ولايجعلهم يتقهقرون بماض ٍ من اليوتوبيا الزائفة ، هؤلاء لاماض يلتفتون خلفه ولا ينتظرون مستقبلاً يسعدهم ، كل أوقاتهم هو الحاضر الذي بين منعطف وأخر في حيواتهم يطلق أفقا من ذئاب نحو سواعدهم / سواعدهن ..يبدأ الديوان (الحِرف الحزينة ) وينتهي بقصيدة قصيرة ( أصحاب العمل اللئيمون )..
(ذوو الحِرف الحزينة
يتردد أبناؤهم في الإجابة
عن السؤال المزعج الذي يطرح عليهم دوماً
ماذا يعمل والدك ؟
يعلمون جيداَ
أنّهم سيقبلون بأيّ عمل ٍ آخر
مقابل الأجر ذاته
يتحوّلون إلى حكماء
حين يتوقفّون عن لوم الآخرين
الذين لايحبون أعمالهم / 9)
أما القصيدة الأخيرة فهي :
(أصحاب العمل اللئيمون
فقط يستحقّون العرض
في عناوين القصائد
أبداً لن يكون لهم
أي بيت شعر ../76)
ها نحن أمام شعر بإنحياز طبقي وفي الوقت نفسه فنحن أمام شعر غير مؤدلج ، أعني الغلبة للفني في القصيدة وليس للفكرة ..
من قصيدة (صانع الزجاج ) نلتقط الاسطر الاخيرة
(يواصل العمل حتى ينغرس الزجاج
في أحشائه
عيناه أيضاً
أصبحتا زجاجاً
إحداها ماعادت تنفع
لأي منظر طبيعي ../43)
ومن قصيدة (المتنكّر لأسباب دعائيّة ) اليكم / اليكن ..الأسطر التالية
:(إن تعثّر
تعذّر عليه النهوض
وتحوّل لسلحفاة ألقيت على ظهرها
على المارّة أن يساعدوه
المارّة المعجبين بالتنكّر ../51)
الشاعر ميغيل مالذونالذو ..لايذكرني بغير الشاعر يانيس ريتسوس ، والروائيين : إيتالو كالفينو ..و إدواردو غاليانو..وهذه الثريا المبدعة تنتمي لمشعلي الحرائق ..
*ميغيل مالذوناذو/ كتاب الحرف الحزينة / ترجمة غدير أبو سنينة / دار أثر/ المملكة العربية السعودية – الدمام/ ط1/ 2016