ادب وفن

باستثناء مظفر النواب.. الريادة مصطلح جاهز لفعل تلاشى / كاظم غيلان

تكاد تكون سائر الفنون والآداب العراقية قد أرّخت لنفسها كل ما أعانها على فرز رياداتها باستثناء القصيدة العامية العراقية، لا سيما اتجاه الحداثة التي ابتدأت على يد مظفر النوّاب تزامناً مع حركة التجديد في الشعر العربي على يد "السياب- نازك". وهناك من يجد أو يضيف "البياتي- البريكان"، وكثيراً ما يستبعد "بلند الحيدري" الذي لاقى اجحافاً كبيراً، وهذا ما أشار له الشاعر والمفكر العربي "أدونيس" في حوار أجراه معه الصديق يوسف المحمداوي ونشر في صحيفة "المدى" خلال واحدة من فعاليات معرض الكتاب. وهو أمر ربما يعود إلى أهواء عاطفية - سياسية.
ان ما حصل لشعر العامية العراقية منذ الفتح النوّابي أضاع حق الريادة بحكم ما عصف في مسارها التاريخي من متغيرات كان للسياسة والاعلام نصيبهما في متسبباتها، وهنا لست بصدد استبعاد رهط من الشعراء، لا يخلو من الأهمية في تعميق الأسباب تبعاً لأهواء ونرجسية البعض منه.
لقد كانت لخطورة هذا الخطاب الشعري الصادم والجريء الفاضح بوجه مشكلات السياسة العراقية وانعطافاتها الحادة طبيعة لا تخلو من القسوة تجاهه من قبيل سلطة حاكمة توفرت على قدر عال من الرؤية القومانية الفوقية المتعالية وعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود باستثناء الفترات التي تخدم مصالحها – اعلامياً حصراً-.
ضمن التصنيف الأيديولوجي حُسبت ريادة هذا اللون الابداعي في حركة التجديد الشعري للشيوعيين العراقيين حصراً. وجاء ذلك تبعاً لطبيعة انتماء مظفر النوّاب إلى هذا الحزب وبوصفه صاحب الفتح الأول. وتعمقت هذه الرؤية أكثر في تعمق هذا الاتجاه الفكري قبل كل شيء للأصوات الشعرية المؤثرة التي تلت النوّاب مما هيأ للسطلة كل مسوغات تحاملها وحقدها حتى كشّرت عن أنيابها علانية وراحت تشرع قانوناً يحمي اللغة الأم "ويراد بها العربية الفصحى" من خطر العامية بوصفها لهجة أقوام خليطة من شأنها أن تهدد الوضع القومي بصفته الثقافية.
لربما يتفق معي الأصدقاء من الشعراء المبدعين ان آخر عهد لنا مع المواجهة الاعلامية تجاه السلطة قد شهدت نفسها الأخير أثناء انعقاد المؤتمر السنوي الخامس في مدينة الناصرية وتحديداً في تموز 1973. وتم ذلك بتوجيه مركزي من قيادة الحكومة آنذاك يقضي بحظر نشر اخبار المؤتمر وايقاف كافة فعالياته ووفقاً لحسابات دقيقة. اذ لم يتبق لنا منبر اعلامي واحد يذكر باستثناء صفحة أسبوعية بجريدة "طريق الشعب" لسان الحزب الشيوعي العراقي أيام صدورها العلني وقبل أن تحتجب إبّان انهيار التحالف القائم آنذاك باسم - الجبهة الوطنية-.
برغم شراسة الهجمة الآنفة الا أنها لم تدم طويلاً، فما أن قرعت طبول الحرب مع ايران حتى استدعي نفر مأجور سطحي تعبوي من المحسوبين على هوية هذا اللون الابداعي ليشبعوا رغبات سيدهم على مدى ثماني سنوات، مقابل عطايا وهبات تلخصت بظرف محشو بالدنانير ومسدس.. ويا لها من "كارثة" تحمل متناقضاتها معها، وأخضعت جميع وسائل الاعلام له باستثناء المقروءة وأعني الصحافة برغم شحتها ومحدوديتها.
انتهت الحرب الى غير رجعة، وسقط النظام الذي أسس قواعد قمعنا الثقافي وشهد العراق ثورة اعلامية هائلة وتناسلت فضائيات من كل حدب وصوب ومحطات بث اذاعي وصحف تجاوز عددها 300 صحيفة ومجلة وروابط واتحادات لكن ما الذي حصل؟
هل تدارس أدعياء ريادته وروابطه وتجمعاته ماحصل له بنفس حجم تصريحات نارية وادعاءات هنا وهناك ؟ هل من دراسات نقدية جادة تمكنه هي الأخرى من فتح ملف ريادته الذي بات مشوشاً وفي حال لا يختلف عن مشهده السياسي وما حصل لحرية "الانفلات" من تدارك مخلفات انتكاسته التي مهدت لمئات من الأسماء في أن تجد لها حظوة هنا وحضوراً هناك ؟ كلا طبعاً وأصبحت التصريحات المجانية غير المسؤولة فضلاً عن استفحال ظاهرة "الشللية" التي لا تهمها سوى منافعها وارتزاقها المعيب. بيد أنه بات من المستحيل على أي باحث أو دارس أكاديمي الاستدلال على رياداته الحقة في ظل تنامي المجانية والجهل، لا سيما وأن الأمر وصل الى حد شيوع ظاهرة جديدة تمثلت بلجان "تحكيمية" تستدعيها البعض من الفضائيات الربحية المتكسبة والتي ضمت نفراً من أشباه المتعلمين الذين يتسارعون في منح التسميات المجانية لكل من هب ودب تحت ذريعة "التشجيع والتنمية" وكأن الشعر بات مشروعاً إروائيا!
وعليه فان الضرورات التي تقتضيها المسؤولية الأخلاقية والابداعية تدفع الآن في اتجاه من ينقذ ما تبقى من المشهد. وعلى نزارته فلربما يسهم في اعادة الاعتبار الى ذلك العمق الجمالي – الانساني لشعر العامية العراقية.