ادب وفن

مظلتان لشخص واحد .. البصرة في "عشاق وفونوغراف وأزمنة" / مقداد مسعود

سألتقط من رواية "عشاق وفونوغراف وأزمنة" للكاتبة لطفية الدليمي هذه الجمل السردية المبتورة بحق البصرة :
"كانت البواخر التجارية ترسو في البصرة وتفرغ حمولتها في زوارق بخارية صغيرة تذهب الى بغداد.. "فتحت شركة الهند الشرقية فرعاً لها في بغداد.. وأمست البضائع تصلها بواسطة البواخر الصغيرة القادمة من البصرة" .."تكتب الجرائد في تشرين الأول عام 1914 عن نشوب الحرب العالمية الأولى وانضمام الدولة العثمانية إلى ألمانيا، إنها الحرب العظمى والخوف يعّم جميع البلاد، البرقيات تردنا من ولاية البصرة: احتلت القوات البريطانية القادمة من بومباي منطقة الفاو جنوبي البصرة بقيادة الجنرال باريت واشتبكت مع الجيش العثماني، والمعارك مستمرة".. وبخصوص غزو الكويت وبتوصيف انسحاب الجيش العراقي نقرأ الكلام التالي على لسان هناء "عند تراجع الجيش احترق الكثيرون في دباباتهم وعجلاتهم".
هنا البصرة محذوفة وما بعد الانسحاب واندلاع الشرارة الأولى من قبل الجنود المنسحبين في ساحة سعد في البصرة مغيّب تماما! ثم يرد ذكر البصرة بشكل عابر. "فأخته مازالت في حداد على ابنها الذي توفي قبل شهرين في حادث انفجار سيارة مفخخة في البصرة".. وأعود إلى ما قبل ذلك، إلى مقارنة نهى للاحتلال البريطاني الاول للبصرة مع بداية القرن العشرين :"البرقيات اللاحقة أشارت إلى ثمة أمل "بطرد البريطانيين، فقد نشطت حركة مقاومة في منطقة الشعيبة". ثم تعقد نهى مقارنة بين ما جرى بين أوائل القرن العشرين من احتلال بريطاني للعراق وبين احتلال العراق بتوقيت سقوط الطاغية.. تقول نهى"... وما جرى في البصرة من معارك دموية ضد قوات التحالف" ما بين القوسين الأخيرين يصنّف كوثيقة إعلامية، لذا أعقّب عليها وأقول هذه المرة الثانية يتكرر هذا الكلام، المرة الأولى حين تحدث الدكتور حيدر سعيد عبر احدى الفضائيات، عن بطولات المقاومة العراقية في أم قصر! ليلتها ونحن نحتسي الشاي في أم قصر تساءلنا: هل توجد أم قصر أخرى! وأي مقاومين/ مقاولين والمرة الثانية هو ما جاء على لسان نهي.. ولنهى أود أن أقول: أنا البصري الذي لم يترك البصرة إلاّ في غيابة الجب خلال محنتها مع الطاغية طيلة حكمه الاستبدادي أشهد لا وجود لمعارك دموية ضد قوات التحالف.. كانت فرصة للمظلومين والمظلومات للبحث عن مصائر الغائبين والغائبات في دهاليز الطاغية، أعني فرصة نصب مجالس العزاء.. فقد بادرت وتطوعت مجموعات من المفجوعين والمفجوعات بتوقيت الأيام الأولى من سقوط الطاغية واتصلت مع جهات معنية، في بغداد كانت السبّاقة في الحفاظ على قوائم الإعدام الجماعي وبتوقيع رئيس الجمهورية وقضاة المحاكم أقول ذلك لأنني واحدى شقيقاتي تطوعنا واستلمنا هذه القوائم وألصقناها في مقر حزبنا الشيوعي العراقي في البصرة وتم إخبار ذوي الشهداء، وبادرت جهات اسلامية والصقت قوائم على قاعدة تمثال عامل أم البروم. . ومن جانب آخر هناك من رأى لحظة سقوط الطاغية فرصة للنهب والسلب والثأر... وأما جار "الجنب اللئيم" فقد استفرد في حرق مؤسسات الدولة والمكتبات العامة وغير ذلك.. وحين أطالب بحق البصرة في الرواية، فليس ذلك تطويقا لحرية الكتابة الروائية، لكن الروائية تذكر البصرة كومض عابر.
ومن جانب آخر رواية "عشاق وفونوغراف وأزمنة".. ليست من رواياتها القصيرة كما هو الحال مع "عالم النساء الوحيدات" أعني بذلك أن رواية "عشاق.." تسهب في التفاصيل التاريخية والجمالية والنباتية.. وتتنقل بين باريس وبغداد بتوقيت لحظتنا العراقية المفخخة والفترة العثمانية حيث تتوغل في فترة مرور ناصر شاه في بغداد وهو في طريقه إلى الحج، كما ورد في فصل "بيت الشاي" وتعلن الروائية من خلال الثبت في الصفحة الأخيرة استعانتها بالمرجعيات وهذا حق مشروع وضرورة روائية لتوسيع الفضاء النصي وتعميقه أيضا، وثمة كتب كان يمكنها الروائية أن تستعملها، لتعطي للبصرة شيئا من استحقاقها الروائي على الروائية لطفية الدليمي، منها "حكم المماليك في العراق" للباحث علاء كاظم نورس، والكتاب صادر في بغداد عن وزارة الثقافة والاعلام، منتصف سبعينات القرن العشرين يتوقف الكتاب طويلا في احداث البصرة، بتوقيت جملتها التي قوسناها.. وكذلك يمكن الرجوع إلى كتاب "مطالع السعود" تأليف عثمان بن سند الوائلي البصري، في الكتاب الكثير من أحوال البصرة في 1774- 1826 والكتاب من تحقيق الدكتور عماد عبد السلام رؤوف وسهيلة عبد المجيد القيسي، والكتاب صادر عن وزارة الثقافة والاعلام في 1991 وكذلك كتاب موسوعة البصرة / الجزء الاول / والكتاب صادر عن دار الشؤون في ثمانينات القرن الماضي، وصدر أيضا من دار الشؤون كتاب حول البصرة في القرن السابع عشر، وهناك كتاب للرحالة بار سنز في عام 1775، أنقل هذه الفقرة منه "زرت ُ أغلب مدن العالم، لكني لم أجد خريفا في العالم أجمل من خريف مدينة البصرة..".. وغير ذلك من الكتب، فالفقرة تتناول الميناء الوحيد للعراق ولا يمكن ان تمر به الروائية العراقية مرور الكرام وهي التي اسهبت في تفاصيل عديدة في روايتها.. "كانت البواخر ترسو في البصرة"؟! أين ترسو.. في شط العرب؟ في الفاو. .؟ ما هي أحوال المدينة آنذاك؟! ألا تستحق هذه المدينة صفحات قليلة من رواية سعتها " 582"صفحة؟!